سوسيولوجيا الفيسبوك
مما لا شك فيه ان مواقع التواصل
الاجتماعي و”الفيس بوك” على وجه الخصوص باتت تشكل وسيلة مهمة وموازية الى
حد بعيد للحياة الاجتماعية لمجتمع القرن الواحد والعشرين. كما ان النشاط
الرقمي اصبح ممارسة اجتماعية لأغلب فئات المجتمع، مما رسم ملامح حياة
افتراضية لا تقل أهمية عن الحياة التقليدية في كثير من المجتمعات ومن بينها
مجتمعاتنا العربية.
وغني عن القول أن الحياة الافتراضية تعكس
أحيانا كثيرة حياة الفرد والجماعة والمجتمع عموما، ذلك أن مبرمجي هذا
النوع من التقنيات يحاولون محاكات الواقع الفعلي قدر المستطاع، غير أنهم
وبسبب توفر الأدوات التكنلوجية والطبيعة الرقمية للحياة الافتراضية اتاحوا
للمستخدم تقمص أ+ دواراً ومراكز اجتماعية مختلفة في بعض الأحيان اختلافاً
كلياً عن الواقع، بل أنها تمكن من تقمص النقيض، وهي بذلك تبني شخصيات وهمية
خادعة، وأخرى قد لا يسمح النظام الاجتماعي بظهورها إلى العلن، فبالاضافة
لامكانية اخفاء الاسم والعمر الحقيقي للمستخدم على سبيل المثال، فهي تمكنه
من لعب دور الجنس الآخر، وهي كمثيلاتها من برامج المحاكاة كألعاب الفيدو
يستطيع الجبان في الواقع أن يمارس دور البطل المنتصر في العالم الافتراضي،
ويحلق بخياله في عالم خيالي لا يلبث أن ينتهي لحظة خلع النظارات ثلاثية
الأبعاد أو اقفال شاشة الحاسوب.
وبشكل عام، فالناس في العالم الافتراضي
أكثر جرأة من الواقع، ذلك أن الاتصال المباشر في الحياة اليومية يخضع
لعوامل ومؤثرات كثيرة تخضع فيها شخصية كل من طرفي الاتصال للبيئة المحيطة،
أما الاتصال في العالم الافتراضي يكون في أغلبه اتصالاً يستخدم الرموز
الالكترونية، إذ لا يوجد تأثير واضح للكاريزما مثلا ، او ملامح الوجه
والايماءات والاشارات الا اذا كان هناك علاقة أو معرفة مسبقة بين طرفي
الاتصال.
والاتصال الافتراضي يتيح للمستخدم ادوات
الكتابة والاشارة والرموز والصور المتحركة والمؤثرات الصوتية ومواد
تدعيمية كثيرة نادرا ما تتوفر مجتمعة في الاتصال المباشر او ما يعرف
بالاتصال الوجاهي، هذه الادوات قادرة على تعزيز الثقة والرأي سواء كان
منشورا حوارا مباشر او غير مباشر.
وتتيح عملية التواصل اللكتروني الى ما سبق معززات كالفيلم والرابط الالكتروني وتقنية النسخ واللصق.
هذه الأخيرة Copy Paste تجرنا إلى موضوع
خطير أعاد تشكيل قضية الانتاج الفكري والأدبي بشكل عام، والنشر الرقمي منه
على وجه الخصوص، ذلك في ظل تراجع المطبوع من المنتج الأدبي والثقافي،
وانتشار ثقافة النسخ واللصق الرقمي التي لا تحتاج إلا لثوانِ معدودة، وهو
ما أدى الى تدهور غير مسبوق مستويات الابداع والكتابة الابداعية، ناهيك عن
ضعف شديد في القواعد والنحو والاملاء، حتى أن جيلا جديداً اصبح يستخدم
الأحرف اللاتينية بلغة عربية لا مبرر مقنع لاستخدامها غير التقليد للغرب
المتقدم وبسبب حالة الانهزام والتراجع التي تعيشها الأمة، ذلك أن اول ما
يهزم من الأمة هي ثقافتها واداتها الأولى وهي اللغة.
القضية الأخطر في هذا المضمار هي عمليات
السطو الأدبي والسرقة لكل ما ينشر على الانترنت، فالمنتج يبدو مشاعا في ظل
غياب تشريعات وقوانين تحمي الملكية الفكرية وحقوق النشر الرقمي أو اي ميثاق
شرف يمكن له أن يحد من عمليات النهب التي يتعرض لها الأدباء والمفكرين
والفنانين.
كثافة المنشور الرقمي على الفيسبوك جعل
من التدقيق والتنقيح عملية صعبة جدا بل تكاد تكون مستحيلة، والبحث عن
المعلومة القيمة اضحى بمثابة البحث عن “ابرة في كومة من القش” كما يقولون.
ونظرا لما نعانهية من سرعة وتيرة الحياة
في كل شيء جعل الناشر الرقمي نفسه يختزل النصوص ما أمكن تماشيا مع هذه
السرعة والجمهور، ذلك أن قلة قليلة جدا من الناس تملك الوقت والارادة
لقراءة مواضيع “دسمة” فكرية كانت أم أدبية، فشاعت قراءة العناوين أكثر من
المضمون، وإن قرر الفيسبوكي قراءة المضمون فغالبا ما تكون القراءات سطحية
او ما يعرف بالمسح الضوئيScanning. ويعود ذلك في رأيي بسبب الشعور السائد
بكثافة المنشورات وضيق الوقت وعدم منح أهمية كافية للنصوص المنشورة. هذا
إذا أخذنا في عين الاعتبار أن الوقت المستقطع لمتابعة “الحائط الفيسبوكي”
يكون عادة اثناء ساعات العمل للموظفين ومن ساعات الدراسة للطلبة بنختلف
فئاتهم العمرية ومراحلهم الدراسية، وقد يكون اثناء عمليات التدبير المنزلي
لربات البيوت.
من النادر أن يعترف أحدهم بالادمان على
الموقع الأكثر شهرة وشعبية بين مواقع التواصل الاجتماعي، أي وصول احد
المستخدمين الى الحد المرضي الذي لا يمكنه ممارسة أي عمل آخر بعيدا عن
الفيسبوك. ففي منشور لطالب في الثانوية العامة “التوجيهي” أعرب فيه عن
سعادته فقط لاستطاعته أن يقرأ صفحة كاملة من كتابه المدرسي، دون النظر إلى
حائطه على الفيسبوك.
حيث الحراك الشبابي الجماهيري الذي عم
عدد من الأقطار العربية فيما اطلق عليه بالربيع العربي جعل من مواقع
التواصل الاجتماعي قوة مؤثرة ضاربة خاصة في عمليات التعبئة والتنظيم
للجماهير في الفعل الميداني، فالدعوة للاضرابات أو المظاهرات ضد النظام كان
يقودها مقاتلون في غرف عمليات، فربما يكون سطح احدى البنايات او قبو أحد
المنازل من خلف شاشات صغيرة، وأحيانا صغيرة جدا، ولكنها ذكية (موبايل ذكي)
وقد لحق بالركب بعد ملاحظة قوة هذا
السلاح الرقمي عدد من كبار الشخصيات والفعاليات السياسية والثقافية
والاجتماعية، ذلك لادراكهم – وإن تأخروا قليلا- لأهمية هذه الأداة، والذين
لا يديرونها بأنفسهم في أغلب الأحيان، بل يوكلون ادارتها لعدد من المختصين
الشباب والمتفرغين للردود والمتابعة.
ومن النادر اليوم أن تجد سياسي فلسطيني
لا يملك حساباً على الفيسبوك، وعلى الرغم من المساحة الحرة المتاحة على
الساحة الفلسطينية إلا أن اجهزة الأمن تقوم بمتابعة النشطاء والمعارضين
منهم تحديداً. وقد سجلت حالت استدعاء وتحقيق مع بعض المدونين والفيسبوكيين.
كما أن بعض الدول العربية اعتقلت لفترات طويلة نشطاء شباب بسبب منشوراتهم
على الفيسبوك او مواقع شبيهة. كما تناقلت وسائل الاعلام اعتقال قوات
الاحتلال لشبان فلسطينيين على خلفيات النشر الالكتروني، كما تستخدم اجهزة
الامن الاسرائيلية مواقع التواصل الاجتماعي لتجنيد العملاء.
الدول الغربية من جهتها سنت قوانين تضبط
النشر الالكتروني خاصة فيما يتعلق بخطاب الكراهية او الدعوة الى العنف
وتهديد السلم الأهلي، كما صدرت أحكام قضائية ضد اشخاص قاموا باختراق
خصوصية افراد ومؤسسات، وكان العقاب من جنس العمل، اي منع المتهم من استخدام
الانترنت لمدة حددتها العقوبة.
على الصعيد الاجتماعي، وهي الصفة الغالبة
للواقع الافتراضي ومنها اشتقت التسمية (مواقع التواصل الاجتماعي) أصبحت
الدعوات للأعراس وبطاقات التهنئة بعيد ميلاد او مولود جديد والتخرج تجد
قبولا بل وواجب اجتماعي (لكنه بالطبع لا يعفي من واجب الحضور الشخصي) لمثل
تلك المناسبات وخاصة في حالات العزاء والمرض وغيرها كالاعياد الدينية ، ففي
العِشرة الافتراضية لا يوجد “عيش وملح” ولا قبلات وأحضان.
غير أن المجاملات الفيسبوكية بمناسبة
وبدون مناسبة تتنشر بشكل لافت للنظر، إن اشارة رفع الإبهام دلالة “الاعجاب”
او ما يعرف بالكلمة الاتجليزية (Like)واحدة من أهم اشارات الموقع
استخداماً، ويقيِّم بعض مستخدمي الفيسبوك أي منشور بعدد “اللايكات” إن صح
التعبير، إضافة الى عدد التعليقات التي تقيس مدى تفاعل المتابعين مع
المنشور أو مع صاحبه.
واللافت للنظر أن بعض المراهقين
والمدمنين على الموقع أصبحوا يتسابقون في جمع الاعجابات، ويستغلون بدهاء
العاطفة الدينة للمستخدمين لهذا الغرض، على اعتبار أن وضع أعجاب على
المنشور الديني يعبر عن الايمان، وأن عدم وضع “لايك” والتعليق بالكلمات
التي يفرضها الناشر عادة، كأن يقول: ” إذا لم تضع لايك، وتكتب سبحان الله،
يكون الشيطان قد منعك”.
كذلك كانت بعض التصرفات على الفيسبوك في
بعض المجتمعات العربية سبباً في حالات طلاق لمجرد وضع لايك على صورة، كما
أن عدم وضعها على منشورات أحدهم أو عدم التعليق تعبر عن حالة عدم رضى عن
صاحب المنشور، وقد يصل بهم الامر الى سحب الاعجاب في حالات الخصام، والذي
قد يتطور إلى إلغاء الصداقةUnfriend ، وربما الى الحجب التام Block في حال
الخلاف الشديد الذي يفسد للود- الرقمي – قضية.
وفي الواقع أيضاً، ينتشر النفاق
الاجتماعي والسياسي بين المستخدمين، وهناك متابعين لمشاهير وسياسيين بمجرد
نشر أحدهم أي شيء، تجد مئات بل آلاف المطبلين والمزمرين، فـ “نكتة الرجل
الغني.. دائما مضحة” كما يقول المثل البرازيلي، تعبيرا عن النفاق
الاجتماعي.
هذا وتنتشر الاشاعة بكافة أشكالها كالنار
في الهشيم، فهناك صنّاع إشاعة ومعلومات مغلوطة، اجتماعية، سياسيةودينة،
أما القضايا والهموم اليومية للجماهير فهي كذلك لها مكانها ومكانتها في
القارة السابعة، كما يحلو للبعض أن يسمي الواقع الافتراضي على الشبكة
العنكبوتية، لكن المؤسف – فيما يتعلق بالساحة الفلسطينية- أن القضايا
المطروحة تنتهي بالتقادم، ذلك لتعدد القضايا والاهتمامات الجماهيرية من
جهة، وكثافة الاحداث كماً ونوعاً التي يعانيها شعبنا من جهة أخرى. فما تلبث
أن تطرح قضية للنقاش حتى تليها أخرى وفي أقل من يوم أو يومين على الأكثر
تتآكل القضية الأولى ويطويها النسيان ويبدأ النقاش حول القضية الجديدة،
وهكذا، ورغم أهمية المطروح من القضايا، إلا أن أغلبها يلقى نفس المصير
المحتوم (الأرشفة الالكترونية) وكأننا ننسى فعلا أو نتناسى عمداً، أو أننا
نملك ذاكرة مثقوبة لم ينفعنا الزعتر البلدي التي تصر جدتي أنه يقوي
الذاكرة.
الله يوفقك احسنت
ردحذف