الرابعة من فجر الواحد والعشرين من آذار، تتجافى جنوبنا عن المضاجع، إذ يوقظنا الصغير ببكائه الطري، أنه عيد ميلاده الأول وعيد الأم الأول لامرأة كانت قبل قرابة سنة تحمل مسمى عزباء.
قالت: وأنا أعدّ قلبي اليوم للاحتفاء بها كأم لابني، اختلطت مشاعري ولا أعرف تماما كيف أكون أما، ماذا أهدي لامرأة ولدتني!! وماذا أهدي لامرأة ولدت لي!!
كم سأكون ساذجا لو فكرت أن أشكر أمرأة حملتني تسعة أشهر! تماما وبنفس السذاجة ، أجد نفسي عاجزا عن شكر امرأة حملت ابني نفس المدة! لكنها المناسبة (عيد الأم) والصغير ابني اليوم، مثلي عندما كنت صغيرا، أوقظ العائلة وقتما أشاء وحيثما أشاء، طلباتي كلها مستجابة دونما أدنى نقاش، أطلب الحليب منتصف الليل، فيأتيني ساخنا، وهكذا فعل ابني هذا الفجر.
عندما جئت لهذه الدنيا، تناقل الجيران الخبر، وتقاطر الأهل والاصدقاء أفرادا وجماعات، مهللين مرحبين، مهنئين مباركين بقدومي، حاملين هدايا أثقل مني. رافعين أياديهم للسماء بالدعاء لي، وحين أنام- وما اكثر نومي تلك الأيام - أفرض حظرا للتجوال، ويتهامس كل من في البيت أن أصمتوا، فالولد نائم، واذا عبرت عن انزعاجي لحظة، وصرخت صرخة، تنادوا مسرعين، وتساءلوا: ما له!! جوعان؟ نعسان؟ ويبذلون قصارى جهدهم لفهم ما يدور بخلدي، دون حاجة مني أن أتفوه ببنت شفه.
يفرحون إن أكلت، ويفرحون إن أخرجت، يسعدهم نومي، ويستبشرون لو استيقظت يحدثني الكبار وهم يلون بألسنتهم كالصغار،، تحدثني أمي عن جاراتها تضحك حتى تكاد الفراشات الملونة تطير عن فستانها، وتفرك شعرها القصير بالحنّاء، أمسك لها المرآة بيدي و..، أضحك بيني وبيني: شايها عادي المذاق، وكذلك خبزها، فهل الحنين إلى قهوة الأمهات مجرد شجن ضروري للأغنيات؟! (أحن إلى خبز أمي).
عندما كنت صغيرا؛ كانت هي شابة في مقتبل العمر وكنت اناديها أمي، كانت هي ظلي، وكان اسمها "نهاد" وصارت بين عشية وضحاها تسمى باسمي "أم طارق "أما أنا فلم أكن سوى نفسي "أنا"! كان لي قبل سنوات اسم قبل أن يناديني الناس بــ "أبو جميل" ، وكما يحلو للبعض أن ينادونني اليوم باسم " ابو جمال"، أما أمي فقد كبر أولادها وزارت الحجاز وأصبحت لها لقب جديد" الحجة أم طارق".
عندما كنت صغيرا؛ عندما كنت أخاف.. أناديها، ولما أجوع أناديها، كنت أبتسم، وكنت ألعب، وكنت أهوى أن أعبث بمشاعرها، وكان لي شعر ككل الأطفال، وكنت أحب أن تمشط أمي شعري، وكنت أحب النساء الصغيرات، وكان لي سماء زرقاء وغدا مشرقا ومساء مطرزا بالنجمات، كنت أركض حافيا ، حيث كان لي ساقان نشيطتان ودماء حارة تسري في عروقي، ونهارات أجمل ما فيها توقيعي الصغير على جذع زيتونة كانت تطل على الجنوب، ما زال يزين ذيلها اسمي .. وظلي ينام في ظلها آخر كل نهار!
عندما كنت صغيرا؛ كان هناك ثمة ما يشدّ ذراعي لأصحو مبكرا، فأقوم لأشرب الشاي بالنعناع، امشط شعري الطويل، وأفتح أزرار القميص لتبدو شعرتان يتيمتان على صدري، وأخرج للحارة محتفياً بنفسي: ربما لأتفاخر أمام أصدقائي الصغار أو آملا بنظرة غير بريئة لطفلة عابرة.
عندما كنت صغيرا؛ كان هنالك ما يجعلُ طعمَ الأشياء أحلى، وغفوة الظُهيرة أهداء، وشعورَ النساء أطول وخصورهن أرفع وأجمل، وكنتُ أستيقظُ أسرع، وأخرجُ من سريري أنشط: كان لي أماً صغيرة؛ وصارت عجوزا، لكنها بقيت أمي!! أمي الحبيبية.
كل الأشياء كانت أرق وأجمل، ذلك عندما كنت صغيرا ؛ كانت أزرارُ القميصِ أصغر وصُعودُ الدرج أسرع، مذاقُ الطريق أحلى، لونُ القهوة أشقر، رنّة الناي، أم كلثوم عند الغروب، وأغاني العاصفة أصدق، حنون الحريقة، الطقيش، وبيض الشنانير، كحلُ العينين للمراهقات، رائحةُ الملوخية، صلاة الجمعة والاغتسال غير المبرر، ضحكةُ الصغيرات بنات الجيران، كانون الشتاءُ (الموقدة)، سيرة الثوار أيام الإنكليز
الملاعين، الذين لم نتعلم منهم غير كلمة (F) كان مفتاحُ الباب تحت العتبة، حَبْلُ الغسيل الملون يقطر نيلة زرقاء، كُلّها عندما كنت صغيرا؛.. كانت كل الأشياء أطهرُ وأجمل!
اليوم، جاء دور الصغير (ابني)، حيث وهنَ العظم مني، واشتعلَ الرأس شيبا. فهل يرى الأشياء مثلي، ها قد مضى العمرُ، وتكلست السنين، ككومة حزن ملقاة عند أقدام العابرين، كثوب حريرٍ قديم، كان له يوما بريق، ألقته سيدة على ركبة السرير،... وجفّت نهارات عمري وانحنى ظهري كعجوز غادر اللوحة ذات مساء ومضى واليوم أتذكر بيتنا القديم وأجد نفسي كفانوس بلا زيت، مُعلقاً في زاوية الخابية الخاوية، مُطفأ وشاحبا ومهملا إلى ابعد حد !
ليس لي أن أضيء على أحد، ولا أحد يستطيع أُضاءتي.. كالليلة مشبعة بالعتمة تُجلل مدينةً مهجورة من سنين، كصدّيق رموه بالزندقة في آخر المطاف، أوكقُبلةٍ لم تتم وماتت راجفة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ارحب بردودكم