بقلم طارق موقدي
بعد أن شكل الاحتلال حكومة نتياهو-
غانتس، والمستند إلى بد رئيسي في اتفاق الاتلاف ينص صراحة على نية هذه الحكومة ضم
الأغوار والمستوطنات تطبيقا لصفقة القرن وبمباركة وتشجيع أمريكي معلن، صاحبه حملة
عربية منظمة لشرعنة التطبيع مع الاحتلال وشيطنة الفلسطيني في نفس الوقت، لم تجد
قيادة م ت ف وهي نفسها التي وقعت على اتفاقيات السلام مع اسرائيل بدا من الاعلان
عن إنهاء هذه الاتفاقيات التي نقضتها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ إعلان المبادئ
وحتى اللحظة.
لا اعتقد أن قيادة م ت ف وعلى رأسها الرئيس أبو مازن والشهيد الراحل
ياسر عرفات لم يكونا على علم بفكر الحركة الصهيونية وايدلوجية قادة الاحتلال،
فبالعودة إلى مؤتمر مدريد للسلام نجد شامير رئيس الوزراء الأسبق
قال إنهم مستعدون
للتفاوض لعشرة
أو عشرين سنة. بينما في التاسع من
سبتمبر عام 2006 (أكد شيمون بيريز نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، أن
إسرائيل لن تخلي خلال العقد القادم، مستعمرات في الضفة الغربية المحتلة، على غرار
ما جرى في قطاع غزة، مشيرا إلى أن فكرة ''خطة الانطواء والتجميع'' قد انتهت سياسيا
ونفسيا وعمليا· وتقضي الخطة المذكورة بإخلاء بعض المستوطنات المعزولة في الضفة،
وتوسيع مستوطنات اخرى لضمها الى اسرائيل مع الاغوار والقدس التي ستبقى ''عاصمة
اسرائيل الابدية الموحدة')
.
فالحديث عن ضم الأغوار والمستوطنات وتكريس القدس كعاصمة موحدة
لإسرائيل ليس جديدا، ولم يكن في يوم من الأيام أمرا سريا، لكن القيادة الفلسطينية
وقعت على الاتفاقيات وراهنت على قدرتها في فرض أمر واقع، فقامت ببناء مؤسسات دولة
وعملت على عضوية فلسطين في الأمم المتحدة، وحشدت أصوات المجتمع الدولي للوقوف مع
الحق الفلسطيني.
في نفس الوقت، استمرت اسرائيل في مصادرة الأراضي وزادت من وتيرة
الاستيطان، وأفرغت أي مجهود دولي باتجاه عملية سلام عادلة، بأن رفضت أي راعي لهذه
العملية غير حليفها الاستراتيجي، ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية، والذي أصبح
أكثر تشددا في بعض الأحيان من الصهاينة أنفسهم، فقد علقت منظمة يهودية أمريكية بان الفضيحة التي تعرض لها رئيس الوزراء
أيهود اولمرت في حينه، والتي تهدد مستقبله السياسي، عقاب رباني، وذلك كونه يتبنى
نهج سلفه السابق ارئيل شارون الذي يصارع المرض لانسحابه من قطاع غزة.
تتوجت سياسة الراعي الأمريكي بإعلان "صفقة القرن" والتي
سبقها الاعتراف الأمريكي بالقدس كاملة عاصمة لإسرائيل، قطعت على أثرها القيادة
الفلسطينية علاقاتها مع الراعي، وكان يجب أن تكون خطوة التحلل من الاتفاقيات
السابقة مع الاحتلال والتي جاءت متأخرة جدا قبيل أيام في ذلك الوقت التي أعلن فيها الرئيس الأمريكي عن الصفقة، بل أن
وقف العمل بالاتفاقيات كان يجب أن يتم في أول خرق إسرائيلي لأي بند لهذه
الاتفاقيات، لكن كما تقدم فقد راهنت القيادة على حصان خاسر. ورغم ذلك نقول "
أن تأتي متأخرا خيرا من لا تأتي أبدا".
الخطير ليس ما قامت به اسرائيل بحق شعبنا، فهذا مفهوم ومتوقع من عدو
ينكر وجودنا أصلا، ولكن الأخطر ما ترتب على هذا الرهان الفلسطيني خلال قرابة عشرون
عاما من العمل في إطار الاتفاقيات، للوصول إلى الهدف المنشود، في إقامة دولة
فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس (الشرقية).
اتفاقيات اوسلو أدخلت الكل الفلسطيني في صراع على سلطة وهمية، كما قال
الرئيس أبو مازن (سلطة بلا سلطة) وبناء عليه أصبح عندنا وزارات ووزراء ووكلاء
ومدراء عامون، فتحولنا من مقاتلين إلى جيش من الموظفين.
وتحول شعبنا من شعب منتج بنى
دول ورفع عمادها بالعلم والمعرفة، إلى شعب متسول، يعيش على المساعدات وفتات الدول
المانحة.
وتحولت الفصائل المسلحة إلى دكاكين ثورية، فأضحت محل سخرية وتندر
جماهيرية، حتى أن المواطن العادي لم يعد يعرف أغلبية اسماء الأمناء العامين لهذه
الفصائل، بل أن بعضها لا يعدو كونه مجرد رقم في تنفيذية المنظمة، وأن قواعده على
الأرض لا تزيد عن عدد أعضاء مكتبه السياسي.
بل أن عضوية م ت ف أصبحت استرزاق مادي وليس استحقاق وطني، وفي كثير من
الأحيان أمر شخصي أكثر من كونه شأن عام،
ناهيك عن لجم أي محاولات للعمل العسكري ضد الاحتلال، وكبت للحريات
والاعتقالات السياسية والتجاذبات الحزبية ، والشتم والتخوين، تحت حجة حماية
المشروع الوطني، حتى أن العمليات العسكرية
ضد المحتل دخلت سوق النخاسة، بل أن بعضها جاء في إطار المناكفة السياسية، كل ذلك
مع ربط محكم بالاقتصاد الاسرائيلي، وظهور طبقة من الكمبرادورات وتجار الحروب،
ورأسمال أقل ما يقال فيه أنه غير وطني، فاحتكارات بالجملة، وقروض بنكية بمليارات
الدولارات، ديون متراكمة على الحكومة والأفراد، تجعل من تدجين المدين أمر مفروغ
منه.
كل هذه الأجواء خلقت جو من عدم الثقة ومجتمع مفرط في الفردانية،
فتراجعت روح العمل الجماعي والتطوعي وانكمش رأس المال الاجتماعي لحدوده الدنيا،
فاستشرى الفساد وسادت المحسوبية والواسطة. وغابت المحاسبة في كثير من الأحيان، كل
هذه الظواهر السلبية تنامت وتضخمت بسبب الرهان على هدف لم يتحقق.
كل هذا وذاك يمكن أن يتم علاجه من خلال عمليات جراحية طويلة لا تخلو من مخاطرة، لكن الخطر الأكبر
يكمن في الصراع على السلطة وما نتج عنه من انقسام قوض أي جهد ممكن أن تقوم به
القيادة الفلسطينية باتجاه الهدف، بل أن
خطورة الانقسام على المستو المحلي تكمن في تعزيز كل السلبيات التي رافقت اوسلو
فيما سبق أن ذكرناه أعلاه.
لست ممن يميلون إلى جلد الذات، ولكن كان لا بد من هذه المقدمة لتشخيص
المشكلة، ولسنا في موقع اتهام أحد أو الدفاع عن أحد، لكننا ندرك جميعا أننا في
ورطة بكل ما تحمل الكلمة من ثقل وبشاعة، فالخطر الداهم الآن خطر وجودي، فإما أن نقف صفا واحدا وإما نتحول
إلى هنود حمر.
لا بد من إيجاد مخرج (وليس مخرج 7، او مسلسل التطبيع سيء الذكر) بل مخرج وطني فلسطيني من هذا كله، وليس لمواجهة
الاحتلال فحسب، بل لحل مشاكلنا الداخلية وأمراضنا الاجتماعية التي أصابتنا في
مقتل، إذ لا يمكننا مواجهة الاحتلال وشراسته الدموية، دون أن نصلح البيت الداخلي
أولا.
لقد قرأت بعض الاقتراحات والآراء والتوصيات التي أحترمها بهذا الخصوص،
ومنها "بناء إطار قيادي موحد من كافة
فصائل العمل الوطني لوضع برنامج شامل للمقاومة الشعبية قادر على إحداث تغيير جوهري
على الأرض ".
وكذلك " إعلان النفير العام لدى كافة أبناء الشعب الفلسطيني في
الضفة الغربية على المستوى الثقافي والاقتصادي والمقاطعة لكل ما هو إسرائيلي، على
أن يكون اشتباك مع الإجراءات الإسرائيلية التي تقوم بها دولة الاحتلال".
أضافة إلى تفاصيل حول الهجوم الدبلوماسي المنظم على المستوى العربي
والعالمي، والعودة إلى الأرض وبناء اقتصاد فلسطيني مقاوم يقوم على المقاطعة،
وتحويل الاحتلال إلى احتلال مكلف بدلا من كونه احتلال مربح او بلا تكلفة على
الأقل.
الخلل الذي يعتري التوصيات أعلاه أنها لم تتطرق من قريب أو بعيد إلى
سبب المشكلة، بل تقوم على استخدام نفس الأدوات التي أثبتت فشلها سابقا في مواجهة
المعضلة الأكثر ضراوة.
البناء القائم حاليا هو بناء
فاسد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وسبب الفساد يكمن في الصراع على السلطة والتي
تتمثل في المركز الاجتماعي والتحكم بوسائل الانتاج (المنصب ورأس المال) وكلاهما يتغذى إما على أساس الولاء الحزبي أو
العائلي، وليس على أساس نضالي، حتى أن هذا الأخير أصبح مبررا ومسوغا للفساد،
ولإصلاح ذلك لا بد من القيام بثورة، والتي تعني في أبسط معانيها تغيير الواقع
القائم، ولأن الواقع – كما هو واضح – متهالك، فلا بد من عملية هدم كلي وإعادة
البناء، وبالتالي فالدعوة لباء أطار قيادي من فصائل العمل الوطني والاسلامي ايضا
هو ضرب من الخيال، إذا اتفقنا على سبق ذكره
أن الفصائل القائمة أصبحت عبئ اكثر من كونها حلا، ولا أقصد هنا الفصائل الصغيرة
فقط، بل أخص بالذكر حركتي فتح وحماس، وهنا أود أن أؤكد أنني لا أشكك في وطنية أحد
ابدا، لكننا وصلنا إلى مرحلة فقدت فيها كل الفصائل بكافة اشكالها وألوانها ثقة
الشارع، لعجزها أولا عن تحقيق شيء ملموس
للمواطن الفلسطيني، ولأنها كلها دون استثناء تلوثت بدم أوسلو النجس.
وعليه أجد أنه لا من خلاص
لشعبنا إلا بأن تقوم هذه الفصائل مجتمعة بمؤتمر يجمع كوادرها في الداخل والشتات،
يكون على جدول أعماله نقطتين لا ثالث لهما:
أولا: في هذا المؤتمر، على الفصائل كافة أن تعلن عن حل نفسها وكافة
أطرها القيادية وهياكلها التنظيمية والادارية والشعبية وأجنحتها العسكرية.
ثانيا: تشكيل إطار قيادي فلسطيني موحد، يكون وريث لكل هذه الفصائل
المنتهية الصلاحية، ويحمل على جدول أعماله بند واحد فقط ، يقوم على وحدة الشعب الفلسطيني، وبناء استراتيجية تحرر وطني وذلك بالقضاء على الكيان الصهيوني ومقاومته بكل
أشكال المقاومة الممكنة، بما في ذلك العسكرية والشعبية والدبلوماسية والاقتصادية
كسلاح المقاطعة ، والاعتماد الذاتي على اقتصاد مقاوم.
ويكون من مهامها محاربة الفساد والمحسوبية والحزبية والقبلية، وهي
بهذه الطريقة تنهي الانقسام وتوحد قوى الشعب في جبهة وطنية فلسطينية عريضة تتشكل
من كافة ابناء الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية وفلسطيني الشتات.
أخيرا، أعلم أن الاقترح موجع
إلى حد كبير، وسيلقى مقاومة شديدة، فهو يستهدف عدد كبير جدا من المنتفعين من الوضع
القائم، ويحتاج للتضحية بكثير من المكاسب الشخصية، وبعض المكتسبات الفئوية، لكننا
في نهاية المطاف سنقف جميعا أمام أجيالنا
القادمة التي ستلعننا إذ لم نقم بواجبنا تجاهها، وإن لم نفعل الآن، فأنا على يقين
أن هذه الفصائل ستصبح سطرا لا أكثر في تاريخ شعبنا القادر على تمييز الغث من
السمين، (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ارحب بردودكم