منتصف أيار والجاز

كان أيار..والسفينة تخترق البحر بثقة..هدير محركها يقلق تأملات الأشياء وهي تبتعد عن الميناء ..والموج الأبيض المتكسر خلفنا يتلاشى في زرقة داكنة.

لحن من الجاز يقتحم أذني، وعبثا أحاول تفاديه... سيدة في الأربعين من مشمشها –على ذمة محمود درويش - وعلى بعد مقعدين مني، تطرق بقدميها أرضية السفينة الحديدية، وتلوح برأسها وأعلى جسدها متابعة النغمات...رمقتها بنصف نظرة خلسة..وعدتُ للكتابة، وهي بارعة - ككل النساء – في اصطياد النظرات وفي إظهار عدم المبالة في نفس الوقت.

سرحتُ وعدتُ للكتابة مرة أخرى..لكن سعلة شديدة أجبرتني على التوقف للمرة الثالثة..ربما كنت بحاجة لقليل من النيكوتين..او الكافئيين..فرغم أن الزاوية مسقط راسي – فهي ليست في خاصرة المتوسط - إلا أنني ولدت كما لو كنت ابن بحار، فلم أعاني من الدوار يوماً إذا ما ركبت البحر..

جاز الكاريبي كموقعه يتوسط الأمريكتين، جاء مشوه الخلقة كمولود الطفرة الجينية، وبالكاد تشم فيه رائحة الجاز..ولولا تنقلي بين شمال وجنوب القارتين، لظننت أنني في كوكب آخر..أقول همسا، حتى لا يسمعني أصدقائي في المارتنيك* ..فيما يرقصون له طرباً، ويعدونه فناً، فلو علموا بما أفكر به الآن لناصبوا العداء – ليس لي فحسب بل – للقضية الفلسطينية برمتها وللشعب الفلسطيني عامة، وهم الذين يُعدونً من أشد أنصارنا، لقد أبدى صديقي الدكتور ناصر ناصر استياءًه – بيني وبينه بالطبع- بعدما ألقى محاضرة في مئة من مثقفيهم، ولم يجد أحداً بين الحضور يخالفه الرأي،أو يسأل سؤالاً محرجاً، كلهم معنا، همس في أذني : وأردف: لو كان بينهم ثلاثة أو أربعة على الأقل ضدنا لكانت الندوة أكثر إثارة.

عودة إلى الجاز، ما زالت السيدة تهز رأسها هائمة.
هل أتابع الكتابة؟؟ حدثني نفسي، وبررت بالقول: بقي نصف ساعة حتى نصل سانت لوسيا*، وانتصف بياض الصفحة، خلال التسع وعشرين دقيقة القادمة علي أن أنشر الحبر وأوزعه بالتساوي على المساحة المتبقية في الورقة اليتيمة التي بحوزتي.
سائح فرنسي شاب يقف ورائي ..وأظنه يتلصص على ما أكتب.

الآن فقط تسللت إلى خياشيمي – أقصد خشومي – رائحة البحر، وبالمناسبة يعرب إبني الصغير جمال (أريع سنوات) كلمة
My Nose أي أنفي.. فيقول نوزي .

على كل حال، سيتعجب الفرنسي من هذه الطلاسم، ويعقد حاجبيه..وربما يجمع شجاعته، ليقول كعادتهم دائما: تكتبون بالمقلوب!!
وسأجيب كالعادة أيضا: لا يا سيدي، أنتم بالنسبة لنا من يكتب بالمقلوب..
وقد أضيف، إذا كنت تمسك القلم باليمين، أليس من المنطقي أن تبدأ الكتابة من الجهة اليمنى من الصفحة، وهي الأقرب لك؟

(لكل امرئ فيما يحاول مذهب) ما لنا والفرنسي..ولكني في هذا المقام أطرق باب الاختلاف في الرأي ووجهات النظر، والتي قد تكون على النقيض تماما.. وقد يكون كلا الطرفين على حق .. من وجهة نظره طبعا..من المفيد أن تضع نفسك في موقع من اختلفت معه في الرأي..وتسال نفسك، لو كنت مكانه هل كنت سأتخذ نفس الموقف؟؟؟

تقول القصة المشهورة أن  صديقان
جلسا على طاولة، واحتدم بينهم النقاش.. كل تمسك برأيه..لكن أكثرهما حكمة قال لصديقه
كلانا على حق..وسأثبت لك ذلك.
قال كيف؟؟
أخرج الحكيم عودين من الكبريت ووضعهما على الطاولة بزاوية حادة
وسال صديقه : العوادن شكلا رقماً، فما هو؟ أجاب الآخر : سبعة
قال: لا، هو ثمانية وليس سبعة
فأصر الأخر على أنه سبعة....
هنا قال الحكيم : تعال اجلس مكاني وسآخذ مكانك
فبدلا المقاعد: قال الآخر معك حق من موقعك الرقم الظاهر هو تمانية!!
هل أدركت يا صديقي أن كلانا كان على حق؟؟؟.

بدأ الركاب يتناسلون من مقاعدهم مهرولين للعودة إلى الأرض – وهي حق – وأنا كعادتي لست على عجلة من أمري، فهنا - على خلاف عالمنا العربي - الأولوية للمواطنين، أما الأجانب أمثالي فعلينا الانتظار حتى النهاية.. إذن ما الفائدة من الركض باتجاه المخرج؟

ولأن حدود البحر مع اليابسة أهدأ من الجو..وهو مجرد شعور ينتابني.. ربما بسبب الأفقية..والوصول إلى شاطئ الأمان، لا يقابله مصطلح (مطار الأمان)، فقد يتفهم السائح الفرنسي الشاب نظريتي، أما السيدة الأربعينية، فقد غادرت مقعدها وتركتني والجاز وحيدين، فهي مواطنة ، أما أنا والفرنسي فغريبين...ولأن الغريب للغريب قريب.. فقد قررنا أن نكون أصدقاء مرحلياً، على الأقل من جانبي، ولنا في الحلول المرحلية إرث لا نُحسد عليه... وربما نصل إلى حل دائم..

كان ذلك في أيار مضى، وأسوء ما فيه على عكس بقية الاشياء وسطه، فعندما ينتصف أيار.. ينتصف قلبي..ففي كل عام  يهّل هذا الشهر- أو ينهال علينا، تنتابني موجة عارمة من الحزن، تلازمني حتى أيار الذي يليه، ولأن الجاز حزين ، فهو يليق بأيار وفي الجاز مجاز وما جاز وما لا يجوز.


-----------------------
15 ايار1948 ..ذكرى النكبة
المارتينيك ، سانت لوسيا، جزرتين في البحر الكاريبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارحب بردودكم