"يهودا والسامرة" فلسطينية


شيقل كنعاني

بقلم: طارق موقدي

في اجتماع مجلس الأمن الدولي الذي انعقد بتاريخ 26 مايو، وبحضور كامل أعضائه الخمسة عشر بحث موضوع نية إسرائيل ضم أجزاء من الضفة الغربية،  وقد أدان عملية الضم أربعة عشر عضوا وبقيت الولايات المتحدة وحدها في مواجهة العالم.
ولما أتيح المجال لطرفي النزاع بتقديم دفاعهما أمام المجلس وقد بدأ وزير الخارجية الفلسطيني "رياض المالكي" تقديم أدلته،  تلاه "داني دانون" سفير إسرائيل في الأمم المتحدة لدى مجلس الأمن "إذا قررت إسرائيل توسيع سيادتها فستنفذ في مناطق تحتفظ فيها دائما بمطالبات مشروعة وتاريخية وقانونية".
برر عدم قانونية طلب منظمة التحرير الفلسطينية كونها لم تكن في يوم من الأيام سلطة حاكمة للأراضي المحتلة عام 1967، وهذا مبرر طالما ساقه الإسرائيليون مدعين أنهم سيطروا على الأراضي وانتزعوها من الأردن وهي من يجب مفاوضتها، لكنهم عادوا بالطلب، وفاوضوا المنظمة، واعترفوا بتمثيلها للشعب الفلسطيني، ووقعوا معها اتفاقيات أوسلو.
عودة السفير الإسرائيلي لطرح هذه القضية أرادت الحكومة الإسرائيلية من خلالها العودة بالتاريخ لما قبل تاريخ توقيع هذه الاتفاقية. لكن هذا ليس موضوعنا في هذا المقال.
موضوعنا يتعلق بالشق التاريخي الذي فصّله السفير الإسرائيلي أمام المجتمع الدولي وحاول من خلاله تبرير مشروعية الضم، فقد نفى "قانونا" وجود الشعب الفلسطيني ممثلا بـمنظمة التحرير الفلسطينية بشكل كامل وهذا فيه تناقض صارخ، أما الشق التاريخي فقد قال بالحرف:" إن العالم لا يحق له أن يتدخل في  حق الشعب اليهودي في فرض سيادته على أرضه، أرض الآباء والأجداد، هذه الأرض الذي منحها الله لشعب إسرائيل منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام لإبراهيم -عليه السلام-، وتلى على مجلس الأمن النص التوراتي الوارد في سفر التكوين الإصحاح 17 العدد 8 " "وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا. وأكون إلههم ]التكوين": 17 :8[
حاول دانون كما حاول أسلافه تزوير الحقائق، بل جعلوا من الله سبحانه (سمسار عقارات)، يوزع قطع أراض على الناس، فيأخذ منه هذا ويعطي ذاك، تعالى الله عما يصفون.
وهم بذلك يرفضون مسمى الضم أصلا، بل يقولون بفرض السيادة؛ لأن الضم تعني السيطرة على أرض غيرهم، والضفة الغربية " يهودا والسامرة" هي جزء من أرض إسرائيل حسب العقيدة اليهودية.
لكن التوراة نفسها وإبراهيم- عليه السلام- بأقواله وأفعاله يشيران بشكل لا مجال فيه للشك أن العدد أعلاه  من سفر التكوين قد تعرض لتحريف واضح من قبل معتقديه، فهم كما قال عنهم القرآن الكريم: " مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ" ]النساء : 46[
ويتجلى التحريف عندما عاد إبراهيم من أرض غربته في مصر إلى أرض غربته في فلسطين، ورغم تكرار وعد الله- تعالى - بإعطائه أرض كنعان،  مرة أخرى في  العدد " فصعد أبرام من مصر ... إلى الجنوب" ؛ " لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" ويتابع "فنقل "أبرام "خيامه وأتى وأقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون، وبنى هناك مذبحا للرب" . ]التكوين:12-15- 18 [
 وتحديدا في مدينة الخليل الفلسطينية (حبرون) التي تحمل اسمه إلى يومنا هذا، فلما وصلها تقول التوراة: إن أميرها أو ملكها الفلسطيني "أَبِا مَالِك" أَوْصَى جَمِيعَ الشَّعْبِ قَائِلاً: «الَّذِي يَمَسُّ هذَا الرَّجُلَ أَوِ امْرَأَتَهُ مَوْتًا يَمُوتُ ":العدد 7 من الإصحاح 26»"

لقد حماه الملك، كونه غريبا لاجئا فأجاره "أبو مالك" كما هي عادة العرب منذ آلاف السنين،
ومن النص أعلاه لا يستطيع اليهود إنكار وجود الفلسطينيين في هذه الأرض، بل وملكيتهم لها، فإبراهيم لم يأت على أرض خالية، بل جاء على شعب يعيش على أرضه، مكونا حضارة عريقة محكوم بنظام سياسي متين يقوم على القيم، والأخلاق الإنسانية، والتي تجلت بنظام عقوبة صارم لمن يعتدي على الغريب المستضعف،  فالذي يعتدي على إبراهيم في قانون الملك الحثي (موتا يموت).
لكن لا يمر سوى أعداد قليلة من نفس الإصحاح حتى ينسى الذين قاموا بتحريف الأعداد السابقة، فتفضحهم التوراة نفسها فنقرأ مرة أخرى بعد ادعائهم أن الله-تعالى- أعطى أرض كنعان  لإبراهيم، وأن هذه الأرض ليست أرضه، وهو ما زال غريبا فيها " وتغرب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياما كثيرة" ]الإصحاح 34:11 [
بل أكثر من ذلك، فالتوارة تثبت تحريفهم بالدليل القاطع، فتروي قصة وفاة " سارة" بعد سنوات من إقامة إبراهيم بين الفلسطينيين الذين أحسنوا مثواه، فيأتي للملك الفلسطيني ويقول: "أنا غريب ونزيل عندكم. أعطوني ملك قبر معكم لأدفن ميتي من أمامي"، وهنا يعترف إبراهيم أنه لا يملك مترين مربعين أو مساحة قبر في أرض فلسطين ليدفن زوجته فيها. ]الإصحاح 23 العدد4[

هنا، يتمثل الكرم الفلسطيني بأجمل صوره، ولنا أن نفهم مصدر كرم أهل الخليل إلى يومنا هذا، يختار إبراهيم مغارة في بستان تسمى حسب النص "مغارة المكفيلة" ويعرض شراءها من صاحبها من بني حث، ويطلب وساطة  الملك في إقناع  المالك ببيعها له، فيقول في العدد 8 -15 :"والتمسوا لي من عفرون بن صوح "9:" أن يعطيني مغارة المكفيلة التي له، والتي هي في طرف حقله. بثمن كامل، يعطيني إياها في وسطكم ملك قبر". [1]
ويعرض إبراهيم دفع أربعمئة شيقل فضة على عفرون ثمن المغارة، فيرد عفرون في العدد 15 بالقول: "يا سيدي، اسمعني. أرض بأربعمئة شاقل فضة، ما هي بيني وبينك ؟ فادفن ميتك".
وهذا دليل أخر على زيف ادعائهم، فكيف يشتري إبراهيم أرضا هي له من الله؟!! وهو دليل ثابت إلى يومنا هذا، فإذا كانت أرض "يهودا والسامرة" لكم، لماذا تستميتون على شرائها، وتستخدمون كل أساليب التزوير والتلفيق لامتلاكها؟؟[2]
لم تقتصر عمليات الشراء على إبراهيم -عليه السلام-، بل إن حفيده يعقوب، بعد أن عاد من العراق موطنهم الأصلي تزوج من" لئيا" و"راحل" بنتي خاله، وأنجب منهما عشرة أولاد ليعود مرة أخرى لغربة جده، انظر "فقام يعقوب وحمل أولاده ونساءه على الجمال... 18 ليجيء إلى إسحاق أبيه إلى أرض كنعان" ]الاصحاح 30 عدد 17[
وكمهاجر جديد مع قرابة خمسة عشر نفرا من زوجاته ونسائه الأربع،  ؟؟وربما ماشيته وجماله، فقد رأى أنه لا بد أن يمتلك مكانا يأويه وعائلته ، فيفاوض "بني حمور" "أبي شكيم" على البستان الذي تقع فيه مغارة "المكفيلة " نفسها والتي أصبحت مقبرة لأبيه "إسحاق" وأمه "رفقة"، وجده "إبراهيم" وجدته "سارة"
فهذا هو الإصحاح يؤرخ عملية البيع، بدقة فيقول: "وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بمئة قسيطة" ]الإصحاح 33 عدد 19[
مرة أخرى لم نجد يعقوب -عليه السلام -يجادل في ملكية الأرض وأنه من نسل إبراهيم وهي موعودة لهم، بل دفع ثمنها، وحتى ذلك اليوم وإلى يومنا هذا فإن إبراهيم وحفيده يعقوب لا يملكان في فلسطين سوى مغارة ثمنها أربعمئة شيقل كنعاني وهي عملة فلسطينية أصيلة، بالإضافة إلى قطعة أرض تحيط بتلك المغارة ثمنها مئة قسيطة فقط لا غير.[3]
لقد حاول الصهاينة تجنيد عدد من (الأغيار) لدعمهم فيما ذهبوا إليه من ادعاء باطل  في ملكية فلسطين، ففي القرن الماضي جندوا وزير خارجية بريطانيا بلفور ووعده المشؤوم، بمنح أرض فلسطين ليقيموا عليها وطنا قوميا لليهود، وجندوا في هذا القرن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ليجدد هذا الوعد، فمنحهم القدس عاصمة لكيانهم الزائف، وحقهم في ضم مايرونه مناسباً من أراضي الضفة الغربية المحتلة منذ عام 1967، فإذا كان بلفور ومن بعده ترامب يعشقان الصهاينة إلى هذا الحد، لماذا لم يمنحا اليهود أرضا في بريطانيا، أو أمريكا المترامية الأطراف؛ليقيموا عليها دولتهم، وليطلقوا عليها ما يحلو لهم من الأسماء، أما فلسطين فلن تكون إلا فلسطين، وتزوير اسمها  وملكيتها لن يفلح أبدا، وهي باقية بقاء الدهر، وهم وزبانيتهم إلى زوال.

وهكذا،  وعلى قاعدة من فمك أدينك، أقول مطمئنا : لماذا قبلتم بتقسيم الحرم الإبراهيمي إذا كان لكم وحدكم وأنتم نسله الذي أعطاهم  هذه الأرض؟ الحقيقة التي لا تدع مجالا للشك، أنكم لستم سوى شذاذ آفاق، وليس لكم صلة، أو علاقة بإبراهيم –عليه السلام - ولا بنسله ، تهودتم في  القرن الثامن في بلاد الخزر، وجئتم غزاة على هذه الأرض، ولأنكم غرباء عنها حتى في لون البشرة ناهيك عن الثقافة والتراث، ستخرجون منها مدحورين كما كل الغزاة ولتبق فلسطين للفلسطينيين أرض كرم وجود وعطاء، باسطة ذراعيها لكل الأخيار والمؤمنين بقداستها، وصدق الله- تعالى- إذ قال: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران : 67-68]



[1]  الحثيون:  في الكتاب المقدَّس: هم بنو حث الابن الثاني لكنعان " وكنعان ولد صيدون بكره وحِثًّا" (تك 10: 15) ومن عفرون الحثي اشترى أبونا إبراهيم مغارة المكفلية (تك 23: 10 - 18) ومن بنات حث أتخذ عيسو امرأتين "يهوديتين ابنة بيري الحثي وبسمة ابنة إيلون الحثي فكانتا مرارة نفس لإسحق ورفقة" (تك 26: 34، 35).. " وقالت رفقة لإسحق ملَّلتُ حياتي من أجل بنات حث. إن كان يعقوب يأخذ زوجة من بنات حث مثل هؤلاء من بنات الأرض فلماذا لي حياة" (تك 27: 46)
[2]  الشيكل الكنعاني:  او شيقل يشير إلى الوزن  اي (ثقل) وهي جذر لغوي عربي (شِقُّل)، وقد وردت في شعرالنابغة الشيباني:
كأن في مزنه بلقاً مشهرة ً …................. بِيضَ الوجوهِ وفي آذانِها شَقَلُ
ويرتبط بجذر (تـ قـ ل) في الآرامية،  لـ”ثقيل“ العربية
وكان الشقل يعتمد  يعتمد على وزن الشعير، حيث كان حوالي 180 شيكلا من الحبوب يمثل 11 غراما أو 0.35 أوقية الفضة، وقد كان الشيكل مشتركا بين الشعوب السامية خصوصاً في بلاد الرافدين كشعب بابل وآشور وكذلك: الموآبيين، والأدوميين والفينيقيين.
[3]  القسيطة:  هي قطعة من النقود لا يُعلم الآن مقدارها. ويرى بعض العلماء أنها مشتقة من" قسَّط " او العدل في العربية، بمعنى قسم إلى أقسام متساوية، أي أنها كانت قطعة محددة من الفضة لا يعلم وزنها الآن، ويقول بعضهم إنه كان مرسوما عليها صورة نعجة؛ لأنها كانت تعادل ثمن "نعجة". ولذلك تُرجمت "بنعجة" في المواضع الثلاثة في الترجمة الكاثوليكية .

أمريكا ..الـزانيـة العـظيمـة



بقلم: طارق موقدي
تنبأ عالم الاجتماع النرويجي "يوهان غالتونغ" المختص بدراسات حل الصراع والسلام بانحسار دور الولايات المتحدة كقوة عالمية خلال فترة تولي "دونالد ترامب" الرئاسة، فقد توقع عام 2000 انهيار ما وصفه "بالإمبراطورية الأمريكية" قبل عام 2025، قبل أن يعود ويعدل ما توقعه عندما فاز جورج بوش الابن برئاسة الولايات المتحدة ، ليكون عام 2020..
وفي الحديث من صحيح  البخاري "بلغوا عنى ولو آية, وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج" وعلى هذا نقول متوكلين على الله- تعالى- في البحث من كتب بني اسرائيل، فلا نصدقهم ولا نكذبهم، إلا بدليل التصديق كدليل من شريعتنا أو بتكذيبهم فيما خالف عقيدتنا.
هناك من تحدث عن إشارات مذكورة في القرآن الكريم  والسنة الشريفة  حول أمريكا  وعظمتها ثم هلاكها ومنها الآية في قوله  تعالى :" وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى]" النجم:50 [واستدل من لفظة (الأولى) على أنه دليل عل وجود (ثانية) وبنفس المواصفات وأن أمريكا هي عاد الثانية التي أشار إليها القرآن عندما تحدث عن عاد الأولى .. وقد أوردوا الكثير من التطابق بين عاد والولايات المتحدة الأمريكية،  كما في قوله تعالى في سورة الفجر "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍإِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ" وهذا تتطابق كبير وتشابه في ارتفاع بنيانها وعظمتها التي لم تصل اليها أي امبراطورية في العالم، وأنها القوة الوحيدة على الإطلاق في  أيامنا هذه، كما أن هلاك عاد الأولى بالصيحة، قد يكون عذاب أمريكا (عاد الثانية) بنفس الطريقة.  
أعتقد أن لتفسير القرآن الكريم رجاله الثقات، من العلماء والمجتهدين، وأنا أخاف بصراحة مجرد الاقتراب من هذه الحلبة فهي ليست لي وأخشى أن أقف ما ليس به علم، فأظلم نفسي قبل أن أظلم الآخرين،  وإنما أبحث في  التوراة والإنجيل ما يمكن أن نستأنس به  من قول، فإن وافق عقيدتنا أخذنا به وإلا  تركناه.
 تحدث الكتاب المقدس (التوراة والإنجيل) كثيرا عن أمور مستقبلية وأحداث عظام سنأتي عليها لاحقا، ومنها ما جاء على شكل عظات ومواعظ، وأخرى ما كان  على شكل رؤى للأنبياء، ومن أهم ما جاء في ذلك ورد في سفر "دانيال" ورؤيا نبوخذ نصر المشهورة، وما ورد في أسفار أخرى كسفر (حزقيال، وأشعيا، وأرميا) وأهمها سفر الرؤيا  الذي يتحدث عن ظهور قوة عظمى في آخر الزمان، وعن عذاب شديد يصيبها لبطشها وكفرها، ويطلق عليها الكتاب لقب الزانية العظيمة:
"سيبكي عليها ملوك الأرض الذين زنوا بها وتنعموا معها، وينوحون حين يشاهدون دخان لهيبها، ويقفون على بعد منها خوفاً من عذابها وهم يقولون : الويل، الويل، أيتها المدينة العظيمة بابل المدينة الجبارة، وسيبكي عليها تجار الأرض" [ الرؤيا الإصحاح الثامن عشر[
 ونقرأ أيضا في الإصحاح التاسع عشر من نفس السفر "وسمعت بعد ذلك صوتاً عظيماً كأنه صوت جمهور كبير في السماء يقول : هللوا لإلهنا ، الخلاص والمجد والقوة ، أحكامه حق وعدل وإن الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض بدعارتها انتقم منها لدم عباده وقالوا ثانية : هللوا ! دخانها يتصاعد أبد الدهور" [1]
أمريكا الإسبانية (أصل التسمية)
رغم أن  المكتشف الإيطالي "أميركو فيسبوتشى" هو أول من أكتشف أمريكا وله تدين باسمها، إلا أن المشهور بين الناس أن مكتشف ما يسمى بالأميركتين اليوم ومن ضمنها الولايات المتحدة، هو الإسباني  "كريستوفر كولمبوس" رغم أنه ولد في (جينوا)  الإيطالية والتي كانت في ذلك الوقت جزءا من إسبانيا، وقبل أن تتدخل بريطانيا كانت أقصى الأرض أو الأرض الجديدة تعرف بداية بالجزر أو القرى الإسبانية، ومن الجدير ذكره أن أقدم أسماء إسبانيا اليوم ظهر في التوراة في عهد سليمان _عليه السلام_، حيث كانت السفن تحتاج إلى قرابة ثلاث سنوات للذهاب إليها والعودة من (ترشيش) محملة بالذهب والفضة، وأقرب الأسماء إليها اليوم هي المدينة الإسبانية الساحلية ترتيوس الواقعة في جنوب إسبانيا على مقربة من جبل طارق.
ولهذا نجد الرؤيا تذكر كثيرا من الدول بأسمائها القديمة المعروفة في التاريخ، ومنها بالطبع ترشيش، وتضيف على ذلك (ترشيش وأشبالها)؛ أي تلك الدول التي ولدت من رحمها وهي الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية. ففي سفر "حزقيال "38: 13 شَبَا وَدَدَانُ وَتُجَّارُ تَرْشِيشَ وَكُلُّ أَشْبَالِهَا يَقُولُونَ لَكَ: هَلْ لِسَلْبِ سَلْبٍ أَنْتَ جَاءٍ؟ هَلْ لِغُنْمِ غَنِيمَةٍ جَمَعْتَ جَمَاعَتَكَ، لِحَمْلِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، لأَخْذِ الْمَاشِيَةِ وَالْقُنْيَةِ، لِنَهْبِ نَهْبٍ عَظِيمٍ؟ ]حز: 38: 13[
لكن هناك تركيز في رؤيا يوحنا اللاهوتي على الولايات المتحدة كقوة عظمى، فلنقرأ معا النص
:
"ويل! ويل! المدينة العظيمة المتسربلة ببز وأرجوان وقرمز، والمتحلية بذهب وحجر كريم ولؤلؤ، لأنه في ساعة واحدة خرب غنى مثل هذا".
.لقد وجدت أن أحدهم من يرى في ذلك إشارة مشفرة تدل على علم هذه الأمة، فيقول: إن "البز"  أقمشة الحرير، أما  الأرجوان والقرمز فتشير إلى اللون الأحمر، وهذا التسربل في اللونين يشير إلى الخطوط الحمراء، والبيضاء في العلم الأمريكي الذي عادة ما يصنع من قماش حريري، كما أن ذكر الذهب والحجارة الكريمة واللؤلؤ اللامع هو إشارة للنجوم الكثيرة في ذاك العلم.
نترك ذلك لرأي القارئ الكريم، فالرؤى تحتمل التأويل، والنصوص المبهمة كهذه، قد تجد لها تفسيرات مختلفة،  ولكني أوردها هنا للأمانة العلمية، ولا يعني أنني اتبناها  أو أرفضها، بل هي كذلك كأفكاري نفسها وتفسيراتي  اللاحقة في هذا البحث، أوكد هنا أنها تحتمل الخطأ، فأقدمها على الصواب، وما هو إلا اجتهاد مني لا أفرضه على أحد.
الحرب على العراق (عاصفة الصحراء)
في سفر ارميا (50: 35) نقرأ "سيف على الكلدانيين يقول الرب وعلى سكان بابل وعلى رؤسائها وعلى حكمائه" سيكون هناك هجوم على العراق، يستهدف السكان، لكنه يستهدف أكثر القيادة والحكماء، لكن من يشن هذه الحرب؟ يأتي الجواب في نفس السفر مباشرة:
(
50: 41) "هو ذا شعب مقبل من الشمال وأمة عظيمة ويوقظ ملوك كثيرون من اقاصي الارض". إنها قوة عظمى تأتي من أقاصي الأرض وليست وحيدة، تشاركها دول  كثيرة، لقد جاءت الولايات المتحدة (من أقاصي الأرض) ومعها تحالف دولي وصل عدده إلى 38 دولة، وهدف الحرب قتل الرئيس صدام حسين_رحمه الله _ واغتيال علماء العراق، بالإضافة إلى قتل أكثر من مليون وثلاثمائة ألف عراقي، وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين مواطن في حرب حملت اسم (عاصفة الصحراء) هكذا قال الرب هأنذا اوقظ على بابل و على الساكنين في وسط القائمين علي "ريحا مهلكة". (51: 1)
النسر الأمريكي وحماية إسرائيل:
نعود إلى سفر الرؤيا، الإصحاح الثالث عشر
12: 13  ولما رأى التنين أنه طرح إلى الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر 
12: 14  فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية إلى موضعها حيث تعال زمانا وزمانين ونصف زمان من وجه الحية .
المرأة الوحيدة التي ولدت الذكر من غير أب هي مريم العذراء _عليها السلام_، وهي من بني إسرائيل الذين اضطهدوا في أوروبا المسيحية، وخاصة في ألمانيا على يد النازية، والتي تم حمايتها بعد هذا الاضطهاد بواسطة (جناحي النسر العظيم) وهو شعار الولايات المتحدة الأمريكية، وحمايتها المعروفة لليهود ودعمهم عسكريا وماديا منذ نشوء كيانهم الغاصب وحتى اللحظة.
أما الفترة الزمنية (زمانا، وزمانين، ونصف زمان) فهي ثلاث سنوات ونصف؛ أي اثنان وأربعون شهرا كما في دانيال؛ أي 1260 يوما، أو 1260 سنة بلغة اليوم (تم الإشارة إليها في بحث سابق بعنوان:  نتنياهو آخر ملوك إسرائيل).
أمريكا.. بين سفر الرؤيا وسفر دانيال:
في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي:  نجد النص يصف قوة الوحش الكبير فيقول: "ثم وقفت على رمل البحر، فرأيت وحشاً طالعاً من البحر لـه سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى قرونه عشرة تيجان، وعلى رؤوسه اسم تجديف، والوحش الذي رأيته كان شبه نمر، وقوائمه كقوائم دب، وفمه كفم أسد، وأعطاه التنين قدرته وعرشه وسلطاناً عظيماً، ورأيت واحداً من رؤوسه كأنه مذبوح للموت وجرحه المميت قد شفي، وتعجبت كل الأرض وراء الوحش''.
الذي أعطى الوحش القوة والقدرة والعرش هو التنين، وهنا إشارة لشعار التنين في علم بريطانيا وقصر ويليز الإنجليزي.
فبعد أن أخضعت بريطانيا العظمى الأرض لقوتها وسلطانها، تراجع سلطانها وانحسرت قوتها، وقامت بتسليم السلطان للوحش العظيم (أمريكا)، وهذا واضح في العدد 4 من نفس الإصحاح، إذ يقول: (وسجدوا للتنين الذي أعطى السلطان للوحش، وسجدوا للوحش قائلين: من هو مثل الوحش؟ من يستطيع أن يحاربه)
إذا أكملنا القراءة سنجد أن هناك وحشا آخر خرج من الأرض هذه المرة، وليس من البحر كالوحش العظيم، هذا الوحش صغير وله قرنا خاروف؛ أي إنه في حقيقته ضعيف، لكن قوته مستمدة من غيره ، فهو خروف لكنه يتكلم كتنين ، في العدد 11 و 12 " ثم رأيت وحشا آخر طالعا من الأرض، وكان له قرنان شبه خروف، وكان يتكلم كتنين، 12 ويعمل بكل سلطان الوحش الأول أمامه، ويجعل الأرض والساكنين فيها يسجدون للوحش الأول الذي شفي جرحه المميت".
يمتد الوحش الصغير (اسرائيل) قوته من قوة الوحش الكبير (أمريكا) ويعمل على إخضاع الناس لجبروت سيده الوحش الكبير.
في الأعداد التالية تتحدث رؤيا يوحنا اللاهوتي عن قوة الوحش وصورته، وأن البشرية جمعاء تخضع لصورته ويوسم الناس إما علي يدهم اليمنى أو على جبهتهم ، فيتحكم بهم فلا يستطيع أحد أن يشتري أو يبيع إلا من له السمة، أو اسم الوحش، أو عدد اسمه،  ثم يضع أمامنا لغزا للحل فيقول في عدد 18":18هنا الحكمة من له فهم فليحسب عدد الوحش، فإنه عدد إنسان، وعدده: ستمئة وستة وستون) 666 هذا الرقم في المعتقد المسيحي هو رمز الشيطان، أو ضد المسيح كما يسمونه، وكذلك هو نفسه المسيح الدجال.
أما "دانيال" فيصف هذا الوحش وبنفس الطريقة تقريبا، فيقول: "إنه رأى أنه صعد من البحر المحيط أربعة حيوانات عظيمة مختلفة: - الأول: كالأسد، ولـه جناحا نسر...، والثاني: كالدب، وفي فمه ثلاثة أضلع، والثالث: مثل النمر، وله أربعة أجنحة وأربعة رؤوس، والرابع: حيوان هائل قوي لـه أسنان من حديد، أكل وداس بقية الحيوانات برجليه، وله عشرة قرون طلع بينها قرن صغير طلعت من قدامه ثلاثة قرون، وظهر لهذا القرن الصغير عيون، وفم إنسان، فتكلم بإلحاد وكفر، ثم تكون نهاية القرن الصغير هي الهلاك على يد قديم الأيام ذي العرش الذي تخدمه الألوف المؤلفة!! وبقيت الحيوانات الأخرى حية لكن نزع عنهم سلطانهم!!''.
وفي سفر دانيال كذلك، ولكن هذه المرة من الإصحاح السابع، يتحدث عن الوحش العظيم، فنجده يقول: "7 بعد هذا كنت أرى في رؤى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوي وشديد جدا وله أسنان من حديد كبيرة. أكل وسحق وداس الباقي برجليه. وكان مخالفا لكل الحيوانات الذين قبله وله عشرة قرون.
8 كنت متأملا بالقرون وإذا بقرن آخر صغير طلع بينها وقلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه وإذا بعيون كعيون الإنسان في هذا القرن وفم متكلم بعظائم.
9 كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام. لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة".
ما لفت انتباهي في الآية التاسعة هذا التوصيف لصاحب العرش الأمريكي (وشعر رأسه كالصوف النقي) ولا أخاله إلا الرئيس الحالي بشعره الذي يشبه الصوف الخالص اللون، ناهيك عن الحديث عن عرشه المتقد نارا، وهي إشارة للصراع على صلاحيته في الرئاسة والمشكلات المحيط به ومحاولات عزله.
نلاحظ الاتفاق في سفر الرؤيا وسفر دانيال على الوحش الكبير والوحش الصغير التابع له والمستمد سلطانه منه.
ولما كان الإنجيليون (البروتستانت " المدرسة الأصولية"  في الولايات المتحدة الذين يشكلون حوالي 45% إلى 47% من عدد سكان أمريكا، وهم حاضنة الحزب الجمهوري، ويؤمنون في أغلبهم بتفوق الجنس الأبيض) يعتقدون أن قيام دولة إسرائيل واتخاذ القدس عاصمة لها هي علامة نزول المسيح  الثاني للأرض، وأن المسيح لن ينزل قبل أن يقام الهيكل على "جبل الهيكل"؛ أي مكان المسجد الأقصى المبارك، وأنهم هم المؤمنون والمختارون لتنفيذ هذه المهمة، فكان من الضروري قطعاً أن تكون الإمبراطورية الرومانية المعاصرة( أمريكا) عدواً لهم وللدولة اليهودية، ولذلك يأتي دعمهم للرئيس الأمريكي دونالد ترامب  لتحقيق رؤيتهم، وهذا سبب اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة الوحش العظيم إليها.
من المهم الإشارة هنا أنهم؛ أي البروتوستانت يعتبرون الكنيسة الكاثوليكية هي سلطة الشيطان القائمة وأنها ضد المسيح كذلك، في حين تعتبر الكنيسة الكاثوليكية أن اليهود الذي تآمروا على المسيح ووشوا به للرومان حتى أوصلوه لخشبة الصليب.
 دمار الوحش العظيم
يتحدث سفر الرؤيا عن الوحش العظيم ويطلق عليه صفة الزانية العظيمة، وهي إشارة لكفره وإلحاده
" ثُمَّ جَاءَ وَاحِدٌ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَلاَئِكَةِ الَّذِينَ مَعَهُمُ السَّبْعَةُ الْجَامَاتُ، وَتَكَلَّمَ مَعِي قَائِلاً لِي: هَلُمَّ فَأُرِيَكَ دَيْنُونَةَ الزَّانِيَةِ الْعَظِيمَةِ الْجَالِسَةِ عَلَى الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، الَّتِي زَنَى مَعَهَا مُلُوكُ الأَرْضِ، وَسَكِرَ سُكَّانُ الأَرْضِ مِنْ خَمْرِ زِنَاهَا". ونجد إسمها في رؤيا 17: 5 "وَعَلَى جِبْهَتِهَا اسْمٌ مَكْتُوبٌ: سِرٌّ. بَابِلُ الْعَظِيمَةُ أُمُّ الزَّوَانِي وَرَجَاسَاتِ الأَرْضِ". رؤيا 17: 1-2
وتحمل هذه الدولة او القوة العظمى صفات هي:
1-            الزانية العظيمة الجالسة على المياه الكثيرة التي زنى معها ملوك الأرض وسكر كل سكان الأرض من خمر زناها.
2-           المياه التي رأيت حيث الزانية جالسة ھي : شعوب، وجموع، وأمم وألسنة.
3-           بعد تدميرها، يبكي تجار الأرض وينوحون عليها؛ لأن تجارتهم تتعرض للكساد، فلا يشتري بضاعتهم أحد فيما بعد، وبضائعهم هي من الذهب، ... والبهائم (غنماً، وخيلاً، ومركبات)... سيقف تجار هذه البضائع بعيدا عنها؛  خوفا من العذاب الذي أصابها، يبكون وينوحون، ويقولون: ويل! ويل! ... خربت في ساعة واحدة .
إنها دولة التجارة العالمية والشركات العملاقة والرفاهية الاقتصادية الأكبر على وجه الأرض تنهار في ساعة واحدة (وهذا تعبير عن سرعة انهيارها)، وما بكاء الدول الأخرى (التجار) عليها إلا لتأثرهم الاقتصادي كذلك بسبب انهيارها.. ذلك أن ثروتهم وتجارتهم العالمية مرتبطة بعملتها (الدولار).
طريقة دمار الولايات المتحدة:
يكمل السفر ليصف طريقة انهيار الزانية العظيمة فيصف المشهد كالتالي:
"رفع ملاكٌ واحدٌ قويٌ حجراً كرحى عظيمة ورماه في البحر قائلاً: هكذا بدفْعٍ سترمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد".
ويضيف: "لأن تجارك كانوا عظماء الأرض إذ بسحرك ضلت جميع الأمم وفيها وجد دم (أتباع) أنبياء وقديسين وجميع من قتل على الأرض".
عند هذه اللحظة يقع العقاب الإلهي: تهلل الشعوب(المؤمنة)، ومن في السماء (الملائكة) يهللون لعدالة السماء قائلين:
"المجد والكرامة والقدرة للرب إلهنا، لأن أحكامه حق وعادلة، إذ قد دان الزانية العظيمة التي أفسدت الأرض برزنها، وانتقم لدم عبيده من يدها".
لكن الإصحاح 18 من سفر الرؤيا يقول شيئا شبيها لما ورد في رؤيا يوحنا اللاهوتي فلنقرأ معاً " ثم بعد هذا رأيت ملاكاً آخر نازلاً من السماء له سلطان عظيم واستنارت الأرض من بھائه، وصرخ بشدة بصوت عظيم قائلاً سقطت، سقطت بابل العظيمة وصارت مسكناً لشياطين ومحرساً لكل روح نجس ومحرساً لكل طائر نجس وممقوت، لأنه من خمر غضب زناها قد شرب جميع الأمم وملوك الأرض زنوا معها."
فالدولة العظمى هذه هي مسكن للشياطين والأرواح النجسة، ولا أخال هذه إلا إشارة لطغيان اليهود وسيطرتهم عليها، إنهم حلفاء الطاغوت وشياطين الإنس، هم من أفسد أمريكا، فسيطروا على ثرواتها وإعلامها ونشروا فيها الفاحشة والقمار وكل أمر مخالف لتعاليم السماء.
أما الطائر النجس والممقوت فهو إشارة واضحة للقوة العسكرية الأمريكية بطائراتها الحربية وصواريخها الفتاكة، "من خمر غضب زناها قد شرب جميع الأمم وملوك الأرض زنوا معها"؛ أي التي أذاقت غضبها وويلاتها شعوب الأرض في أفغانستان، والعراق، وفلسطين، وليبيا واليابان، وكل شعوب الأرض،  وكان ذلك مباشرة أو بوساطة ملوك الأرض الذين زنوا معها، أولئك الذين فعلوا بشعوبهم مثل فعلها وبدعم  وتأييد مباشرين منها، كما هو الحال في طواغيت العالم العربي وغيرهم من الملوك في العالم.

إذن فالعقاب الرباني يأتي بسبب ظلمها للعباد، وسفكها لدماء الأبرياء وعلى شكل إعصار بحري شديد، وهذا العذاب يعيدنا إلى ما وقع على عاد الأولى: "وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ* سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيْهَا صَرْعَى كَأَنَّهمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ" (الحاقة: 6-8)
لكن الصيحة تأتي هنا على شكل هتاف يقول: "أيتها القائمة على المياه الغزيرة الكثيرة الكنوز، قد حان أجلكِ، بنفسه أقسم رب القوات: أملوك رجالاً كالجنادب فيصيحون عليك بهتاف الانتصار؟  هو الذي صنع الأرض بقوته وثبّت الدنيا بحكمته "
ويقول في موضع آخر ويؤكد عدالة الله، فالجزاء عنده من جنس العمل: "ثم سمعت صوتاً آخر من السماء قائلاً اخرجوا  منها يا شعبي لئلا تشتركوا في خطاياها،  و لئلا تأخذوا من ضرباتها؛ لأن خطاياها لحقت السماء وتذكّر الله آثامها، جازوها كما هي أيضاً جازتكم، وضاعفوا  لها ضعفاً نظير أعمالها،  في الكأس التي مزجت فيها امزجوا لها ضعفاً قدر ما مجدت نفسها وتنعمت بقدر ذلك، أعطوها عذاباً وحزناً".
العجيب في النبوءات أنها تربط بشكل لا ريب فيه بين انهيار الوحش العظيم وسقوط الوحش الصغير، فالصيحة،  أو كما يطلق عليها الكتاب هتاف الانتصار، تصيب الطرفين في آن واحد، أو سقوط الوحشين الكبير يتلوه الصغير، يقول أشعياء: "استيقظي،  استيقظي البسي عزك يا صهيون (أي يا فلسطين)  البسي ثياب فخرك يا أورشليم يا مدينة القدس فإنه لا يعود يدخلك أقلف ولا نجس، انفضي الغبار عنكِ قومي اجلسي يا أورشليم حُلَّت قيود عنقك أيتها الأسيرة".
إذن، هو يوم عز وفخار، يوم تنفض القدس عنها الغبار، وتتطهر من رجس الأنجاس، ومن دنس اليهود.

ويصف "اشعيا" 5 في الأعداد من 25-29 الجيوش التي تصل القدس فتحول الجيش الإسرائيلي إلى جيفة لهم رائحة المزابل "مِنْ أَجْلِ ذلِكَ حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ، وَمَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ، حَتَّى ارْتَعَدَتِ الْجِبَالُ وَصَارَتْ جُثَثُهُمْ كَالزِّبْلِ فِي الأَزِقَّةِ. مَعَ كُلِّ هذَا لَمْ يَرْتَدَّ غَضَبُهُ، بَلْ يَدُهُ مَمْدُودَةٌ بَعْدُ. 26  فَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ مِنْ بَعِيدٍ، وَيَصْفِرُ لَهُمْ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ، فَإِذَا هُمْ بِالْعَجَلَةِ يَأْتُونَ سَرِيعًا. 27 لَيْسَ فِيهِمْ رَازِحٌ وَلاَ عَاثِرٌ. لاَ يَنْعَسُونَ وَلاَ يَنَامُونَ، وَلاَ تَنْحَلُّ حُزُمُ أَحْقَائِهِمْ، وَلاَ تَنْقَطِعُ سُيُورُ أَحْذِيَتِهِم. 28 الَّذِينَ سِهَامُهُمْ مَسْنُونَةٌ، وَجَمِيعُ قِسِيِّهِمْ مَمْدُودَةٌ. حَوَافِرُ خَيْلِهِمْ تُحْسَبُ كَالصَّوَّانِ، وَبَكَرَاتُهُمْ كَالزَّوْبَعَةِ. 29 لَهُمْ زَمْجَرَةٌ كَاللَّبْوَةِ، وَيُزَمْجِرُونَ كَالشِّبْلِ، وَيَهِرُّونَ وَيُمْسِكُونَ الْفَرِيسَةَ وَيَسْتَخْلِصُونَهَا وَلاَ مُنْقِذَ. 30 يَهِرُّونَ عَلَيْهِمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَهَدِيرِ الْبَحْرِ. فَإِنْ نُظِرَ إِلَى الأَرْضِ فَهُوَذَا ظَلاَمُ الضِّيقِ، وَالنُّورُ قَدْ أَظْلَمَ بِسُحُبِهَا".

 يسبق الآيات المذكورة أعلاه سبب غضب الله-تعالى- على شعب اسرائيل، في مجموعة كثيرة من الآيات مفادها أنهم لم يتبعوا الشريعة، واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل، فشربوا الخمر وقلبوا الحق باطلا والباطل حقا، وهناك إشارة للتهمة الرئيسية المتهم بها رئيس وزرائهم هذه الأيام في الآية 23 "الَّذِينَ يُبَرِّرُونَ الشِّرِّيرَ مِنْ أَجْلِ الرُّشْوَةِ، وَأَمَّا حَقُّ الصِّدِّيقِينَ فَيَنْزِعُونَهُ مِنْهُمْ" عودة للأعداد المذكورة أعلاه نجد أن الجيوش المشاركة في المعركة قادمة من أماكن بعيدة، لكنها أتت مسرعة، رغم ذلك فهي غير متعبة، فلم يصبهم نصب ولا تعب، حتى حقائبهم لم تفتح، ولم يخلعوا أحذيتهم، وهذا دليل كان من الصعب فهمه في ذلك الوقت من النبوءة،  لكننا نفهم هذه الأيام أن وصول هذه الجيوش هو على متن طائرات سريعة "فَإِذَا هُمْ بِالْعَجَلَةِ يَأْتُونَ سَرِيعًا" أو عربات جند وقوات محمولة إما جوا أو برا.
وفي وصف أسلحتهم الفتاكة يقول النص:
"الَّذِينَ سِهَامُهُمْ مَسْنُونَةٌ، وَجَمِيعُ قِسِيِّهِمْ مَمْدُودَةٌ. حَوَافِرُ خَيْلِهِمْ تُحْسَبُ كَالصَّوَّانِ، وَبَكَرَاتُهُمْ كَالزَّوْبَعَةِ" فهم عباد أولي بأس شديد "لَهُمْ زَمْجَرَةٌ كَاللَّبْوَةِ، وَيُزَمْجِرُونَ كَالشِّبْلِ، وَيَهِرُّونَ وَيُمْسِكُونَ الْفَرِيسَةَ وَيَسْتَخْلِصُونَهَا وَلاَ مُنْقِذَ" يستنجد جيش العدو (الوحش الصغير) ويصرخ كالفريسة بين أنياب الأسود والأشبال، ولا من منقذ، فلا يستجيب (الوحش الكبير) ، لا أحد يهرع لنجدته، فليسيئوا وجهوهم ويمرغوها بالتراب، ويدوسوا خلال الديار وليتبروا ما علو تتبيرا، فأين هو الوحش العظيم؟، وأين هي امريكا منقذتهم ؟، لا أحد يجيب، "ويَهِرُّونَ عَلَيْهِمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ كَهَدِيرِ الْبَحْرِ. فَإِنْ نُظِرَ إِلَى الأَرْضِ فَهُو ذَا ظَلاَمُ الضِّيقِ، وَالنُّورُ قَدْ أَظْلَمَ بِسُحُبِهَا" فتضيق عليهم الأرض بما رحبت، وترتفع سحب الدخان وغبار المعركة يملأ الأجواء، فيتحول النهار إلى ظلام دامس.
 يومها يمن الله –تعالى-على المؤمنين بنصره العظيم، ويتحقق وعد الآخرة، الذي يصفه سفر صفنيا بالقول:
"لأَنِّي حِينَئِذٍ أُحَوِّلُ الشُّعُوبَ (وفي رواية الأميين) إِلَى شَفَةٍ نَقِيَّةٍ، لِيَدْعُوا كُلُّهُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ، لِيَعْبُدُوهُ بِكَتِفٍ وَاحِدَةٍ." ]صفنيا [9:3

من المهم هنا أن نقف قليلا، فالتوراة تستخدم اسم (الشعوب) لتميزهم عن شعب الله "المختار" أو بني اسرائيل، وتسميهم الأغيار، وكذلك الأميين، فالمنتصرون في الآية أعلاه هم من الشعوب، الذين يحملون صفات (شفة نقية)؛ أي لا يقولون إلا الحق فهم مؤمنون أطهار، فلا يقولون على الله-تعالى- الكذب، ويعبدونه (بكتف واحدة)؛ أي يصطفون الواحد إلى جانب الآخر، كتف بكتف، وطريقة صلاتهم هذه لم تكن معروفة سابقا ولا لاحقا إلا عند المسلمين، "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)  فالصلاة عند غيرهم لا يكون فيها تلاصق بل تباعد، أما العباد الذين تصفهم الآية أعلاه فهم يقومون على (تراصوا وسدوا الفرج)
ننوه أن الرؤيا التي اعتمدنا عليها في أغلب بحثنا هي ما تسمى برؤيا (يوحنا اللاهوتي) وهو ليس يوحنا المعمدان أحد حواريي المسيح -عليه السلام-، وله سفر خاص به يحمل اسم (سفر يوحنا) وقد خلط كثير من المسيحيين في بداية الأمر بين الاثنين، فتنبه علماؤهم لذلك وألحقوه بالعهد الجديد؛ أي آخر الإنجيل، وهو عبارة عن رؤيا رآها شخص يحمل اسم يوحنا، تحكي تاريخ البشرية منذ نزول المسيح حتى عودته الثانية   أعلى الأرض، هذا والله تعالى أعلم.



[1]  ما لفت انتباهي هنا، وبعيدا عن موضوعنا استخدام كلموا "هللوا"  وهي  طلب تمجيد الله وقوته سبحانه وتعالي، كما أن التهليل هو قول "لا إله إلا الله" وهذه أيم والله أساس الرسالات السماوية كلها، إلا وهي توحيد الخالق جل في علاه.

كورونا: الضبط الاجتماعي في ظل السلطة الفلسطينية


طارق موقدي
في عام 1785 قام الفيلسوف والمصلح القانوني والاجتماعي البريطاني  جيرمي بنتام بتصميم بناء لسجن أطلق عليه اسم " Panopticon  Inspection house" أو بيت التفتيش،  وهو عبارة عن مبنى  نصف دائري،  مكون من عدة طوابق وغرف، يتوسط  فنائه الواسع  (مركز الدائرة) برج مراقبة مظلل بزجاج عاكس، فهو يرى  ولا يرُى، أما غرف السجناء ففي كل غرفة نافذتان واحدة صغيرة من الخلف  تسمح بدخول الإضاءة وأخرى واسعة  تواجه البرج وتسمح للحارس بمراقبة كل السجناء في نفس اللحظة، بينما، ونظرا للتصميم الفريد، فإن السجين يشعر أنه وحيدا، منفردا، فهو منقطع عن كل اتصال عن الآخرين  ولا يستطيع أن يرى أيا منهم كما أنه مراقبا باستمرار من حارس غير مرئي.   (Bentham, 1791)
ألهمت فكرة البانوبتيكون  Panopticon هذه مفكرين وفلاسفة كثر، أبرزهم كان  للفيلسوف والباحث الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الصادر في باريس سنة 1975 تحت عنوان المراقبة والعقاب(Discipline and Punish) أسقط فوكو - وبنفس المعنى الرمزي للبانوبتكون- الفكرة على عملية الضبط الاجتماعي الحديث، حتى وان لم تظل حبيسة المؤسسات الحكومية كالسجون والاصلاحيات وأسوارها، لتقوم على مراقبة كل أفراد المجتمع، لا بل إنها  في رأيه تدجن المجتمع ليكون رقيب ذاته. (FOUCAULT, 2020)
إذن ما هو الضبط الاجتماعي؟ باختصار شديد "هو مجموعة من الآليات والأسس والسياسات المجتمعية والسياسية التي تتولى مسؤولية توجيه وتسيير سلوك الأفراد في مجتمع ما سعياً للوصول إلى الالتزام والاتباع التام للقواعد الحاكمة للمجتمع أو لفئة اجتماعية أو حكومية ما".
 ومن التعريف السالف الذكر نجد أن هناك أنوعا ووسائل مختلفة لعملية التنشئة  الاجتماعية منها ما هي وسائل غير رسمية كالقيم والمبادئ  المجتمعية التي يتم بنائها من خلال معايير التنشئة الاجتماعية الأسرية، حيث يحاول المجتمع تأطير أفراده وصقل شخصياتهم في إطار معين يكون الانصياع لها إلزاميا.
وكذلك وسائل رسمية وهي ما تفرضه الدولة أو السلطة الحاكمة على أفراد المجتمع من أوامر ونواه تهدف إلى تنظيم المجتمع للحد من الفوضى وفرض الأمن.
وللضبط الاجتماعي  أهدافا سامية تعمل على  تنمية  شعور أفراد المجتمع  بالمساواة أمام القانون، فالقانون بحد ذاته يولد شعور جمعيي ورابط مشترك، وفرضه يؤطر سلوكيات الأفراد  بحيث يوضح دور كل فرد من أفراد المجتمع، ما له من حقوق وما عليه من واجبات، فتطبيق القانون يحقق التوازن والاستقرار المجتمعي، ويقوم الضبط الاجتماعي على مبدأ الثواب  للمنضبطين اجتماعيا، والعقاب لمخالفي القوانين والضوابط الاجتماعية الرسمية منها والأسرية على حد سواء.
ووفقا لنظرية تطور وسائل الضبط الاجتماعي يعتقد إدوارد روس أن هناك غرائز أساسية يحملها الفرد هي "المشاركة، القابلية  للاجتماع، والشعور بالعدالة، وردة الفعل الفرد" اجتماع هذه الغرائز الأربعة تبني  مجتمعا قائما على احترام متبادل بين أفراده،  بينما يعتقد عالم الاجتماع الشهير سمنر أن "الضوابط التلقائية " كالرموز والأنماط القيمية  التي يمارسها المجتمع هي من تخلق عمليات الضبط الاجتماعي، لكن  مؤسس "النظرية البنائية"  يرى  أن الأدوار الاجتماعية  القائمة على التوازن الوظيفي لها أبعاد مهمة جدا في عمليات الضبط الاجتماعي. (جابر، 1984)
أرى أن الضبط الذاتي أو التلقائي  هو من أهم اشكال الضبط الاجتماعي، ذلك أن سلوك الفرد فيه  يقوم على أيمانه بالقيم والمثل الاجتماعية السائدة، والقوانين والنظم الرسمية التي توائم بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة بما يضمن حرية الأفراد والمجموعات ويحفظ حقوقهم ويساوي بينهم في الثواب والعقاب.
إن طبيعة النفس البشرية -الأمارة بالسوء - تضع فرضية الضبط الذاتي على المحك، ويأتي هنا دور الرقيب المرئي وغير المرئي في نفس الوقت، فالبانوبتيكون هو النموذج المثالي للسلطة العقابية أ, التأديبية  إذا قام الفرد او الجماعة بخرق القانون، ومن أهم خصائص النظام: القدرة على تنظيم تمدد السلطة  وحضورها بطريقة فعالة، وفرض سيطرتها بأقل التكاليف، وبعدد قليل من الأفراد، باستخدام التكنلوجيا الحديثة ككاميرات المراقبة وبرامج الذكاء الصناعي في تحيل البيانات الضخمة والتنبؤ بممارسات الأفراد  وذلك بزيادة مدى الرؤية في حدها الأقصى، وتفعيل مشاركة فعالة لكل من هم على علاقة بالسلطة  وأجهزتها بكل اذرعها المدنية والعسكرية.
الضبط الاجتماعي قبل كورونا
تذبذبت العلاقة بين أفراد المجتمع الفلسطيني ومؤسساته الاجتماعية  من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى،  فقد اتسمت بالعداء  والشك المستمر مع قوى الاحتلال المتعاقبة، سواء أكان الاحتلال العسكري المباشر متمثلا بالإدارة المدنية او عملائها ممثلين ببعض رؤساء البلديات والمخاتير أو روابط القرى، أما على المستوى الداخلي فقد احتكم الشعب الفلسطيني للضبط الاجتماعي القائم على  نظريتي الضبط التلقائي والضبط الذاتي، فالضبط التلقائي حسب عالم الاجتماع سمنر تقوم على أن الصفة الرئيسة للواقع الاجتماعي تعرض نفسها بطريقة واضحة في تنظيم السلوك عن طريق العادات الشعبية ، إذ أنها تعمل على ضبط التفاعل الاجتماعي ، وهي ليست من خلق الإرادة الإنسانية (الرشدان، 1999).
 بل إن الوسائل الشعبية عبارة عن عادات وتقاليد المجتمع وأعرافه ، وطالما أنها محتفظة بفاعليتها فهي تحكم بالضرورة السلوك الاجتماعي ، وبالتالي تصبح ضرورية لنجاح الأجيال المتعاقبة » فالأعراف  الشعبية لها أهمية بالغة في عملية الضبط، فهي التي تحكم النظم والقوانين و أنه لا يوجد حد فاصل بين الأعراف والقوانين ، والفرق الوحيد بينهما يكمن في العقوبات ، فالقانونية منها أكثر عقلانية وتنظيماً من العقوبات العرفية في رأي (جابر، 1984)

أما  نظرية الضبط الذاتي لصابحها كولي (Cooley) فهي تنظر للمجتمع على أساس أنه كل لا يتجزأ يعتمد في تنظيمه الاجتماعي على الرمز والأنماط والمستويات الجمعية والقيم والمثل العليا، حيث أن الضبط الاجتماعي كما يعرفه كلي فهو تلك العملية المستمرة التي تكمن في الخلق الذاتي للمجتمع ، بمعنى أنه ضبط ذاتي يقوم به المجتمع، وهو الذي ينضبط في نفس الوقت . وبناءً عليه فالأفراد ليسوا منعزلين عن العقل الاجتماعي. والضبط الاجتماعي يُفرض على الكل الاجتماعي وبواسطته، وهو يظهر في المجتمعات الشاملة والجماعات الخاصة  كما يعتقد (الرشدان، 1999)
وتمظهر ذلك جليا في الأيام الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الأولى في مطلع سبتمبر 1987، فبيانات القيادة الوطنية الموحدة كانت قد رفعت شعار (لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة. صوت شعب فلسطين) بمعنى أوضح جاءت البيانات لتؤكد أن سلطة الضبط من الآن فصاعدا هي سلطة قيادة الفعل الجماهيري، وهي سلطة الشعب الفلسطيني وليس أحدا سواه، هذا المقطع الأخير من الشعار (صوت شعب فلسطين، شعب منظكة التحرير الفلسطينية) يؤكد على الضبط الذاتي ويشير إلى أن عملية الضبط هذه فلسطينية محضة مما يعزز شرعنتها ووحدانية تمثل م ت ف للشعب الفلسطيني
تمتد هذه الفترة مع فترات إخفاق مختلفة حتى قدوم السلطة الفلسطينية بعيد توقيع أتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 مع تقسيماتها المشهورة بمناطق ألف باء جيم، هذه التقسيمات التي حدت من وجود السلطة  وبالتالي فعاليتها في عملية الضبط المطلوبة، ناهيك عن إخراج القدس الشرقية من المعادلة الكلية.
رغم الآمال الكبيرة التي بنيت في البدايات إلا أنها لم تلبث أن اصطدمت شعبيا بالكثير من العقبات، أبرزها كان نزاع الشرعية التي تمثل في المعارضة عموما والإسلامية منها على وجه الخصوص،  ووصل ذلك النزاع حد الذروة بفوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات 2006 وما تلاه من انقسام، واعتقالات سياسية في محاولة كل طرف فرض الضبط الاجتماعي من نوع خاص.
اللافت للانتباه أن المجتمع الفلسطيني يعيد تنظيم نفسه في إيقاع موحد خلال الأزمات  الكبرى، كالعدوان الاسرائيلي على غزة، ونضال القيادة الفلسطينية للحصول على عضوية الأمم المتحدة، وأخيرا دائحة كورونا التي بدأت في أواخر العام الماضي 2019 أو ما عرف بـ "كوفيد-19"


الضبط الاجتماعي في ظل كورونا
إذا قمنا بإعادة قراءة بناية البانوبتيكون نجد بوضوح أن مبدأ المراقبة كان حاضرا وبقوة، وبما أن المراقب غير مرئي، فالرقابة تصبح ذاتية، لأن الفرد يغير سلوكه ببساطة إذا شعر وتأكد أنه مراقب، حتى وإن كانت الرقابة وهمية، ولنا هنا  أن ندرج مثالا على محل تجاري مترامي الأطراف، كان يعاني من السرقات فنصب مديره  مجسمات على شكل كاميرات مراقبة، وعلى الرغم أنها ليست كاميرات حقيقية إلا أن مستوى السرقة قد انخفض بشكل كبير.
من المهم التأكيد هنا أن نشر ثقافة المراقبة الذاتية يجب أن يصاحبها وبالتوازي توعية مفادها أن الرقابة هي لحفظ حقوق الأفراد والمجتمع وليس لحفظ السلطة بحد ذاتها ولذاتها، فالسلطة هي في نهاية المطاف مؤسسة اجتماعية أوجدها المجتمع، فهي منه وإليه. وأن أفراد المجتمع قاموا طواعية بتخويل المؤسسة الحاكمة هذه بتدبير شؤون حياتهم والحفاظ على حقوقهم ومصالحهم وحياتهم.
وليس أدل على ذلك اليوم من حالة الانتشار الخطير للجائحة كورونا، فاذا اسقطنا ما سلف أن تقدمنا به من إطار نظري، فإن السلطة الفلسطينية قد فرضت قانون الطوارئ  بمرسوم رئاسي، مارست من خلاله عملية ضبط اجتماعي يعتبر الأول من نوعه في المجتمع الفلسطيني، لقد تخلص المجتمع الفلسطيني في زمن قياسي من التشكيك في دور السلطة، للخضوع التام للقوانين والإجراءات التي اتخذتها، ببساطة لأن مصالح الأفراد والجماعات والسلطة ذاتها قد اجتمعت في مواجهة الخطر الداهم.
ربما تكون المرة الأولى التي يقتنع فيها المجتمع بأن الرقابة الذاتية والتي جمعت بين الرقابة الفردية والمجتمعية الرسمية وغير الرسمية هي أمر حتمي، وأن الاجراءات المفروضة على الأفراد من تقييد للحركة والتزام المنازل والحجر الذاتي هي للحفاظ على النفس البشرية في الدرجة الأولى، لو اقتنع سائق السيارة الذي كان يسير بمركبته  بسرعة  غير قانونية أن شرطي المرور الذ أوقفه لن يخالفه فقط لفرض سلطته عليه بل لأنه يقوم بواجبه تجاه السائق نفسه، إلا وهو الحفاظ على حياته  وحياة الآخرين، إذا وصل المواطن إلى هذه القناعة وإذا ما مارسها ممثل السلطة فعلا، فإننا نكون قد وصلنا للضبط الاجتماعي المثالي (الضبط الذاتي).
اليوم  نستطيع القول أن كل وسائل الضبط الاجتماعي الخمسة عشر قد اجتمعت لتقف في وجه الفايروس الفتاك كورونا، وتتمثل هذه الضوابط كما صنفها جانوتز في: الرأي العام والقانون، التربية والمثل العليا، التراث والتقاليد  والمعتقدات، القيم الاجتماعية والإيحاء الاجتماعي، دين الجماعة والشعائر والطقوس،  الفن والأخلاق الشخصية، وأخيرا  الأساطير والأوهام. (Janowitz, 1991)
وعلى الرغم من أن بعض القرارات جاءت صادمة وتتعارض مع كثير من  وسائل الضبط أعلاه فإن قلة قليلة من افراد المجتمع الفلسطيني قد رفضتها علانية، وأكثر مثال على ذلك هو قرار إغلاق دور العبادة (الكنائس والمساجد) فدين الجماعة والشعائر والطقوس  التي يمارسها الأفراد في الظروف العادية كصلاة الجمعة والجماعة  للمسلمين تتسق مع التقاليد والمعتقدات لقداس الأحد بالنسبة للمسيحيين، لقد واجهت السلطة في البداية مقاومة تمثلت في إقامة بعض الأفراد صلوات خارج المساجد وفي الساحات العامة، كما أن قرار إغلاق كنيسة المهد كان له وقع شديد على الأفراد والجماعات الدينية لما تمثل الكنيسة من رمزية دينية ووطنية، خاصة أن أولى حالات الاصابة بالفيروس قد ظهرت في بيت لحم.
إذا ما قمنا بتحيل الخطاب الاعلامي يؤكد الناطق باسم الحكومة في كل مرة يخرج فيها لوسائل الإعلام بالقول (أن الاجراءات المتخذة تصب في مصلحتكم ولضمان سلامتكم ومنع تفشي هذا الوباء بينكم) وهذا بالطبع لضمان استمرار الضبط الذاتي، وهو بذلك يكسب ثقة الجمهور ويضمن استمرارية عملية الضبط الاجتماعي.
نلاحظ التدريج في فرض وسائل الضبط الاجتماعي من قبل السلطة، وهذا بحد ذاته اسلوب متبع من أساليب الضبط الاجتماعي، وهو يتماشى مع نظرية مقاومة التغيير، كما أن استخدام السلطة للتدريج من خلال فرض اجراءات على منطقة تفشي الوباء (بيت لحم) ثم انسحاب ذلك على مناطق أخرى يصب في نفس الاتجاه، إضافة لاستخدام أسلوب التسريب الاعلامي، لتهيئة الجمهور للخطوات اللاحقة، ففرض منع التجوال مثلا مرتبط  في الذاكرة الجمعية الفلسطينية بممارسات الاحتلال في فرض سيطرته على الشعب الواقع تحت الاحتلال، أما السلطة  فتمارسه في هذه الحالة لأهداف وطنية ولمصلحة المواطن.
تمارس السلطة الضبط الاجتماعي من خلال مركزية الخبر الصحفي بدعوة محاربة الشائعات، وقد نجحت حقيقة في الحد من التفات الجمهور لمصادر الخبر غير الرسمي، بهدف تمتين الجبهة الداخلية، لأن الشائعة بحد ذاتها تهدد استمرارية الضبط الاجتماعي وسلامته، رغم بعض الهنات التي أصابت هذا الخطاب كما رصدها الدكتور أبراهيم ربايعة من حيث "المقدمات الإنشائية الطويلة ، وكذلك مقاربة شرعية حسن ادارة الأزمة والتغني بالإنجاز مقابل شرعية الانتخابات " رغم التأكيد على تعطلها بسبب الاحتلال". (ربايعة، 2020)

تقوم عملية الضبط الاجتماعي على تماسك المجتمع من الناحيتين البنائية والوظيفية، ففي أوقات الأزمات تتضاعف أهمية الضبط الاجتماعي،  فعلى سبيل المثال كان العمل التطوعي قد تراجع  بشكل ملحوظ منذ ظهور السلطة الفلسطينية 1994، مقارنة بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، ويعود ذلك لعدة أسباب لسنا في مقام بحثها في هذا المقال، لكن أهم سبب هو التحاق نشطاء هذا الحقل في الوظيفة العمومية، والتي أصبحت تعني أن ما كان يقدم من خلال العمل التطوعي فعلى السلطة تقديمه، هذه الأفكار أدت إلى انحسار دور مؤسسات المجتمع المدني عموما وتآكل رأس المال الاجتماعي، لكن ظهور جائحة كورونا بحجمها العالمي أعاد الذاكرة الجمعية لظروف الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فظهر سريعا حركات تطوعية شبابية أعلنت عن استعدادها لتقديم أي عون ممكن للمجتمع إلى جانب السلطة وتحت جناحها، كما أن أصوات رسمية وشعبية بدأت تطالب القطاع الخاص بأخذ دوره والمساهمة المادية في دعم الجهود الحكومية لمقاومة الوباء.
على الصعيد السياسي، وبعد دقائق من إعلان الرئيس فرض حالة الطوارئ سارعت حركة حماس وعلى لسان المتحدث باسمها برفض خجول للقرار بررته حماس بأن قطاع غزة خالي من كورونا، وأن القرار لا يشمل القطاع، مما دعا الناطق باسم الحكومة للتأكيد أن القرار يشمل كل المحافظات بما فيها المحافظات الجنوبية، وامتثالا للضبط الاجتماعي أعلنت أولا جامعة أو اثنتين  في قطاع غزة عن تعليق الدوام تنفيذا للقرار تبعتها جامعات أخرى ثم أخرى، انخرطت حركة حماس في عملية الضبط هذه دون الاعلان بشكل رسمي امتثالها للقرار، فبدأت بإقامة معازل حجر صحي على الحدود مع مصر ومن ثم التواصل من خلال وزارة  الصحة  لتوفير ما يلزم في حال ظهرت أي اصابة بالفيروس، فضلا عن اتصال رئيس الحركة اسماعيل هنية بالرئيس عباس، فهل تكون كورونا فاتحة خير نستعيد به اللحمة لشطري الوطن!!

ماذا بعد كورونا
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ماذا بعد كورونا، لا شك أن الوضع الراهن إذا ما طال –لا سمح الله- سيخلق عادات اجتماعية سلبية وإيجابية كثيرة، وأرى أن تمتين عملية الضبط الاجتماعي ستكون من أهم النتائج الإيجابية في المرحلة القادمة، وأن على السلطة أن تبني عليها، كالشراكة المجتمعية الحقيقة مع كافة قوى المجتمع الفلسطيني بكافة قطاعاته  الأهلي، المدني والخاص، والاتصال المباشر والمتواصل مع الجمهور، واطلاع المواطن الفلسطيني  على أي تطورات أو خطوات تتخذها الحكومة تماما كما تفعل الان في حالة كورونا، لا بل أن إطلاع الجمهور على القرارات وحده ليس كفيلا باستمرار علاقة بناء الثقة، إذ يجب أن يصل المجتمع إلى قناعة أن القرارات هي في صالحه ولأجله.

لقد برز فهوم التباعد الاجتماعي عالميا كما ظهر فلسطينيا، لكن مدنية الأنسان وحاجته للتقارب كما يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الاجتماع للبشر ضروري ولا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه ، وحكمه فيهم إما أن يستند إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه ، أو إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليه ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم ، فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة ، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط" (حسنين ، 1394هـ)

الثانية هنا متعلقة بالسلطة الفلسطينية وخاصة  فيما عرف بالخاصرة الرخوخة وهي طبقة العمال الذين يعملون في الداخل، والخطر القادم معهم بسبب عملهم في مناطق موبؤة وعودتهم إلى بيوتهم، وهم بين ناري الالتزام بالحجر المنزلي ولقمة العيش، بل أن انتظارهم لن يطول، فبالرغم من الأداء المتميز للحكومة وأذرعها المختلفة، "وما تراكمه اليوم من شعبية والتفاف ستخسره في يوم واحد عندما تقف عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة في ظل الأزمة الاقتصادية المقبلة المحلية والعالمية على حد سواء، وعليه لنحاول اطالة النفس عبر مرونة التطبيق خاصة ان الالتزام في مراكز العديد من المحافظات محدود وأن الأرياف تعمل بالمجمل كما المعتاد في كثير من القطاعات الاقتصادية". (ربايعة، 2020)
هناك أكثر من نموذج في عملية الضبط الاجتماعي تنتهجها دول العالم، فدور الدولة وقيمتها في النموذج السويدي على سبيل المثال يعتمد أساسا على قيمة الأفراد الذين تتشكل منهم هذه الدولة ، على عكس النموذج الصيني الذي يختزل مصالح  الأفراد وتطورهم االقيمي وتقدمهم الحضاري في قدرات عملية او إدارية محددة بدقة مما يقزّم أفراد المجتمع ويحولهم إلى أدوات مطيعة بيد السلطة حتى وإن كانت الغاية من ذلك هي للمنفعة العامة.
نرجح التعامل مع الأزمة وما قد يليها من هزات ارتدادية بالذهاب نحو النموذج السويدي، وبشكل أكثر وضوحا، يجب أن نبتعد عن سياسة القبضة ونعتمد سياسة الأصابع المتأهبة (سياسة الملقط) بحيث يكون هناك مساحات مفتوحة وأخرى مغلقة تبعا للحالة من حيث انتشار الوباء أو انحساره من جهة، ومن حيث طبيعة وحيوية النشاط الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى، كما لا بد من أن نأخذ بالاعتبار  البعدين الديموغرافي والجغرافي في عملية الضبط الاجتماعي، ذلك أن المناطق المحاذية لجدار الفصل العنصري والقريبة من المعابر الاحتلالية أكثر خطرا من العمق الفلسطيني، كما أن عملية الضبط في المدن تختلف عنها في القرى والمخيمات، غني عن القول أن إطالة مدة الحجر المنزلي سينتج عنه بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية،  أزمات اجتماعية ونفسية كثيرة.
لقد أظهر المجتمع الفلسطيني حتى الآن انضباطا استثنائيا  لم يفعله إلا مع سلطته الوطنية، فقد اعتاد أن يتمرد خلال المئة عام الماضية، ذلك أن السلطات الحاكمة كانت استعمارية غاشمة، فقد وضع ثقته التي اهتزت اكثر من مرة في سلطته، وعلى السلطة الفلسطينية أن تستخلص الدروس من هذه الأزمة، وتبني على هذه الثقة التي منحها لها الشعب، وإن كانت ليست بديلا عن الانتخابات المنتظرة إلا أنها مؤشرا يقول باختصار، "أذا كنتم جادين في خدمتنا فسنوليكم ثقتنا واحترامنا، فضلا عن انضباطنا، لكن هذا قد يتغير إذا ما طالت مدة الحجر المنزلي، واستمر تعطيل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة.

المراجع:

 

Bentham, J. (1791). Panopticon, or, The inspection-house.
FOUCAULT, M. I. (2020). DISCIPLINE AND PUNISH: The birth of the prison. S.l.: PENGUIN BOOKS.
Janowitz, M. (1991). On Social Organization Social Control. Chicago: The University of Chicago.
عبد الله سامح ربايعة. (2020). منشور. موقع فيسبوك.
عبد الله، الرشدان. (1999). علم اجتماع التربية . عمان : دار الشروق .
محمد سامية جابر. (1984). القانون والضوابط الاجتماعية. الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية.
مصطفى محمد حسنين . (1394هـ). الضبط الاجتماعي في الإسلام. ، العدد الخامس ، الرياض : ، كلية الشريعة ، (201-208).