منها وإليها

أحيانا يسيطر علي شعور بالحاجة إلى الخروج من هذا العالم إلى عالم أكثر أمنا وهدوء ووحدة وطبيعية، ليس لأن المحيط الذي أعيشه سيء أو أنني تعرضت - كغيري - للكثير من التجارب والإخفاقات، بل ربما لأنني أؤمن أنني كإنسان ابتعدت كثيرا عن أمّنا الطبيعة، وأن التصاقنا الفطري بالأرض - التراب الذي خلقنا سبحانه وتعالى منه - أصبح ضعيفا بل وضعيفا جدا.

لقد كثرت الشكاوى حول المشاكل النفسية ومضاعفاتها، وازداد عدد من لديهم الاستعداد للاعتراف أنهم بحاجة لمساعدة وعلاج، لكن مجتمعاتنا العربية تسودها ثقافة مفادها أن المريض النفسي باختصار شديد هو " مجنون". ولو أمعنا النظر في محيطنا لوجدنا أن مدن عربية كاملة لا ينقصها سوى جدار يحيط بها من كل جانب ولافتة كبيرة على بوابتها الرئيسة يكتب عليها بالخط العريض " مصحة نفسية"

ربما أجد نفسي مبالغا، لكني أرى أن الابتعاد عن الطبيعة في المجتمعات الحديثة سبب جوهري تتآكل فيه القيم الإنسانية ويمتهن الإنسان بإنسانيته قبل كل شي.

كنت قد درست مساقا جاء تحت عنوان " علم نفس الألون" وكان أن قررت البروفسورة مدرسة المساق في المحاضرة الأولى أن تخرج بنا إلى حديقة جبلية قريبة، وطلبت منا أن نجمع عدد غير محدود من أوراق الشجر - الأخضر واليابس، ثم جلسنا مجتمعين، وسألتنا أن نتفحص الأوراق وألوانها، وأن ندقق النظر في الورقة الواحدة، أن ننظر في الخطوط والألوان وتدرجات اللون الواحد، وكيف يتغير اللون على الورقة إذا ما نقلناها من الظل إلى النور وبالعكس، وأمور كثيرة أخرى.

منذ ذلك اليوم بدأت أرى الحياة أجمل، والطبيعة أروع وأرقى، وأيقنت أن الحياة تستحق أن تُعاش، " على هذه الأرض ما يستحق الحياة. م.د " وبدأت أقدم النصيحة لأصدقائي أن يخرجوا للطبيعة من حولهم كلما شكى أحدهم من ملل أو تعب . وكانت النتائج في كل مرة مفرحة، لقد كانوا يعودون بحالة مستقرة نفسيا وراحة كبيرة.

فالبرغم من إيماني بصحة مقولة ابن خلدون " الإنسان مدني بالطبع " إلا أن الشعور بالحاجة الملحة للعزلة تجعلني أكثر إيمانا أن هناك خلل ما يدفع بالاتجاه المعاكس، ذلك أن العيش في جماعة - أفرادا مستقلين ومعزولين عمليا رغم ادعاء التواصل التقني "ثورة الاتصالات" على الشاكلة التي تعيشها مجتمعاتنا الحديثة اليوم - وخاصة الصناعية والتجارية منها - تقذف بنا إلى أتون أشيئة الإنسان، بحيث يبدو كآلات مبرمجة، تقوم بتنفيذ أوامر معدة مسبقا ومحكومة بزمان ومكان وحسابات ربحية وكذلك نتائج متوقعة.


تذكرت قصة خروج احد النسّاك مع تلميذ له إلى الغابة المحيطة بزاويته، عندما حل الليل قال التلميذ: يا الله ..يا لهذا السكون!!
لحظتها نصحه الناسك : لا تقل أبدا " يا لهذا السكون!!" بل اسأل: اين صوت الطبيعة!!.

ربما هذا الشعور الذي ينتابني هو ما يحدوني على التفكير المستمر بالخروج الىالأصل (أنا فلاح ، أبا عن جد )بعيدا عن المدنية والحداثة، لان عدم الاستماع إلى إيقاع الطبيعة هو الموت بعينه والذي لا يوازيه إلا الفراغ القاتل والصمت المريع.

هل فقدان الإنسان الحديث لقدرات كثيرة كان يمتلكها جاء بسبب بعده عن الطبيعة واعتماده المتزايد على الآلة؟؟
هل هذا البعد يبعدنا عن القيم الفطرية العليا للإنسان كالصدق والكرم والنخوة والشهامة، والتي أصبحت استثناء وليست قيم عامة، ومتنحية بدل أن تكون سائدة ؟؟

هذا حقيقة ما يؤرقني ، وما يستفز الطبيعة وعدم احترام القوانين الكونية الطبيعية وأسوءها مكننة الإنسان لأخيه الإنسان لدرجة أغضبت البيئة المحيطة والتي ثارت في وجهه مرسلة رسائل شديدة اللهجة ومحتجة على هذا التلوث المستمر والمخيف لبيتنا الكبير على هذا الكوكب.

إن هذا الكم الهائل من الأعاصير والزلازل والبراكين وارتفاع درجات الحرارة في مناطق لم تعهد هذا الارتفاع أو هبوطها في أخرى لم تشهد مثله من قبل، ما هو إلا إشارات على الإنسان أن يفهمها جيدا، وعلينا كبشر أن نعمل على تجنب كل ما يستنفر الطبيعة الأم وعلى رأسها عودة الإنسان إلى أحضان هذه الأم الرءوم التي خرجنا من رحمها وإلى رحمها نعود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارحب بردودكم