وعد الآخرة..جرعة ثقة


لا يخفى على أي قارئ للأحداث أن هناك حالة إحباط تلقي بظلالها على الشارع الفلسطيني، بسبب الجائحة من جهة، والوضع السياسي العام من جهة أخرى، وقوة المحتل وجبروته من جهة ثالثة.
شخصيا لا أميل لاستحضار أمثلة من التاريخ البعيد، وإسقاطها على الواقع الحالي، فالمقارنات والمقاربات لا يخلوها في أغلب الأحيان تلبيس ظالم، ولن يجد معارضوها صعوبة في تفنيدها على كل الأحول، بل إن الخروج  الجزئي من عباءة الماضي مهما كان جميلا ربما يكون أكثر أمنا على المستوى  الواقعي، وثباتا للحاضر وبالتالي إمكانية استقراء المستقبل والتخطيط له.
لكني أجد نفسي مجبرا على اجترار قصة حصار المسلمين  قلعة بني النضير المحصنة، وهي ليست بالمناسبة أقل تحصينا من مستوطنات الاحتلال في يومنا هذا، لكن النتيجة كما وردت في القرآن الكريم كانت كالتالي:  "هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" (الحشر: 2)
وهنا لا أتحدث عن التدخل الرباني في المعركة، ولكن هي محاولة  لتقييم الحالة النفسية لكلا الطرفين، فالمسلمون شكوا في إمكانية هزيمة أعدائهم "مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا"؛ وذلك لمناعة حصونهم وقوة جيوشهم، أما العدو نفسه فقد كان أكثر ثقة بتجهيزاته العسكرية "وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ" هذه المفارقة التي نعيشها اليوم بحذافيرها، إذ يتملكنا شعور بالضعف، ويمتلك العدو شعورا بالقوة، في حين نعيش حالة من الفرقة والانقسام، بينما يتوحد العدو بتشكيل حكومة وحدة وائتلاف.
وبما أننا نعيش في حالة من عدم اليقين والظن، علينا أن نتذكر أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وأنهم مها بدوا متحدين، فوحدتهم باطلة  فهم" لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ" (الحشر: 4)
فلا تخدعنا مظاهر وحدتهم أبدا، "بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ" وهم جبناء مهما تظاهروا بالقوة، فلا تغرنكم آلتهم العسكرية ولا تخشوهم في معركة، فهم غير قادرين على المواجهة إلا في مدن ومستوطنات محصنة وجدران فصل وعزل احتلالي "لَا يُقَٰتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ".
بل إنهم لن ينتصروا عليكم في نهاية المطاف أبدا، وما انتصاراتهم المؤقتة إلا لشيء أراده الله-تعالى- في امتحان الأمة، ولا يأتي انتصارهم إلا من خلال دعم خارجي من قوى الشر على الأرض، لكن الذلة ، والمسكنة هما صفات تلازمهم في العموم، ليس في فلسطين فحسب، بل في أي أرض يحطون فيها، تحتقرهم الشعوب وتطاردهم في كل مكان، فلا يشعرون بالأمن والأمان أبدا؛ عقابا لهم على جرائمهم المتوالية، انظر في قوله تعالى:" ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ" (آل عمران: 112).
عادة ما تضيق صدور الناس بواقعها، ويستعجلون الحلول، لكن للأرض قوانينها، فلها ترتيب ومراتب لا بد أن تمر بها، ولا يمكننا تخطيها أو اختصارها، فإذا زرعت نبتة خضروات، فعليك أن تنتظر شهرين أو ثلاثة لتقطف الثمار، أما إذا زرعت شجرة زيتون فلا بد أن تنتظر خمس سنوات لتجني محصولها، فكيف إذ زرعت إنسانا، يجب أن تنتظر عشرين سنة وربما أكثر.
على أية حال، علينا أن نعتني بما نزرع، ونحيطه بالرعاية الكاملة، ولا نستعجل الحصاد، فالصبر الصبر آل ياسر، وموعدكم مع النصر القريب إن شاء الله- تعالى-  ولكنكم تستعجلون.
معركتنا مع العدو طويلة ومقدسة،  وليست كما  يحاول بعضهم تصويرها على أنها (طوشة على قطعة أرض)، هي أكبر بكثير من ذلك، وما موضوع الضم، إلا مجرد زوبعة في فنجان الصراع الأبدي الطويل، وكأن المستوطنات كانت شرعية، والجريمة الآن تكمن في ضمها واعتبارها جزءا من الكيان الغاصب، فالاحتلال قائم بل جاثم على صدورنا قبل الضم وبعده، ولا فرق  بين يمين العدو ويساره، فهم يختلفون على كل شيء ولأي شيء، ولا يتفقون إلا على دمنا.
ومن هنا فلا مساومة على وجودنا وحقنا في أرضنا، والتي هي جزء من هذا الصراع وليس كله، لقد اختارنا الله-تعالى- أبناء رباط في هذه البلاد؛ لنتصدى لأعتى قوى الشر على الأرض، ونحن لها منذ أن رفضوا...  "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ" (المائدة: 24) وهم يعرفوننا جيدا، ويشهدون بقوة شعبنا وجلده، بل بجبروته وقوة تحمله:  "قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" (المائدة: 22). لقد دخلوها غزاة قتلة، فحرقوا أريحا بمن فيها، وحرقوا أطفال دوابشة وابو خضير وغيرهم اليوم، لكن شعب فلسطين لم ولن يهجرها، فأريحا اليوم عامرة ومدن فلسطين قائمة، وهم إلى زوال مهما فسدوا ووصلوا من علو، هم أضعف مما تتصورون، وما بنيانهم إلا وهم زائل بل أوهن من خيط العنكبوت، ولن يكون ذلك اليوم ببعيد، يومها سنذكر قوله تعالى فيهم: "يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" وهو وعد الحق، وإن رآه بعضنا بعيدا، ولكن انظروا ما أجمل النهاية عندما يتحقق الوعد بهزيمتهم ونصرنا عليهم!"  "قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا" (107) "وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا" (الإسراء 108) صدق الله العظيم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارحب بردودكم