كورونا: بين جدلية التباعد والتواصل الاجتماعي

طارق موقدي

مقدمة:

في ظل جائحة كورونا، نقف اليوم أما مصطلحين متناقضين يجتمعان في نفس اللحظة، المصطلح الجديد على المجتمع الفلسطيني هو التباعد الاجتماعي (Social Distancing) وهو إجراء متبع في حال انتشار وباء ما، عن طريق تخفيض الاحتكاك بين أفراد المجتمع الواحد من خلال تقليل النشاطات الاجتماعية بمختلف أنواعها، العائلية الرياضية والفنية، ومع انتشار فيروس كورونا اتخذت كثير من الدول وأولها فلسطين قرارا استراتيجيا بفرض التباعد الاجتماعي في محاولة حثيثة لإبطاء الانتشار السريع للفيروس الفتاك مما يقطع سلسلة تكاثره وانتقاله بين السكان، يرتبط مفهوم التباعد الاجتماعي بمفهوم أخر ذات دلالة وهو  ما يعرف بتسطيح المنحنى (Flattening the Curve)  لأن التباعد الاجتماعي يؤثر بشكل مباشر على معدل نمو الفيروس ويقاوم منحنى تعاظمه ويجعله أبطأ انتشارا مما يخفض عدد الإصابات.
في نفس الوقت، وعلى الجانب الأخر من المعادلة تبرز حاجة البشر للتواصل الاجتماعي، فالإنسان كما يعتقد ابن خلدون في مقدمته "مدني بالطبع" فهو لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، فالاتصال والتواصل حاجة إنسانية فطرية.

لغة الأزمة والثقافة الصحية:

مع انتشار الفيروس، بدأت مسامع الجمهور الفلسطيني تلتفت إلى مصطلحات غير مألوفة، كالتباعد الاجتماعي كما تقدم، وانتشرت سريعا ثقافة الصحة العامة، حتى أن كثير من الخبراء الفلسطينيين والعرب، قد أسهبوا في تعريف "الفيروس" والفرق بينه وبين البكتيريا، فالفيروس لا يتعدى كونه كائنا طفيليا غير حي وغير خلوي قادر على تشكيل عوامل مُمرِضة عبر إعادة تشكيله لنفسه مراتٍ عديدة عند وصوله للخلايا الحية، وتمتلك الفيروسات القدرة على إصابة كل أشكال الكائنات الحية، كما أن مصطلح الفيروسات التاجية كعائلة فيروسية بدى أكثر وضوحا، مع تسليط الضوء على فيروس كورونا الثاني المعروف باسم سارسSARS-CoV-2:، كيف لا وهو الأب الروحي لفيروس كورونا المستجد أو ما يعرف طبيا باسم كوفيد-19.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فالملفت للنظر هو إدراك الناس لفترة حضانة الفيروس (Incubation Period) والامتثال لها في أغلب الأحيان، وهو كذلك أصبح مصطلح شعبيا معروفا، كما أن الرقم أربعة عشر جاء مصاحبا لمصطلح الحجر المنزلي، فكل المشتبه بمخالطتهم لمصابين عليهم أن يحجروا أنفسهم منزليا 14 يوما، بحيث يتم عزلهم بشكلٍ كامل عن محيطهم ووضعهم ضمن بيئةٍ عالية التعقيم مثل المستشفيات، بينما يمكن أن تتم إجراءات الحجر الصحي في المنازل ولفترةٍ زمنية معينة يشترط فيها ألا يقوم الفرد المشتبه في إصابته بالاحتكاك والتواصل مع أفراد العائلة أو الزوار، وهو أمر في غاية الصعوبة، فكيف تمنع طفلا لا يتجاوز سنواته الثلاث أن يحضن أبيه أو أمه، وكيف تشرح له خطورة العدوى، وأهمية التباعد لرب الأسرة أو أي من أفرادها لمدة نصف شهر تقريبا. 
أما الوباء (Epidemic) كمصطلح فقد جاء أولا ثم تبعه مصطلح أكثر رعبا ألا وهو "الجائحة" وإن كان لكلاهما نفس المعنى، غير أن الجائحة تعني الانتشار الواسع لوباءٍ مرضيّ، وعلى مستوى العالم، إذ عادةً ما تتولى منظمة الصحة العالمية مسؤولية تصنيف مرض وبائيّ على أنه جائحة: Pandemic
ولا بد في هذا المجال من الإشارة إلى عملية الربط بين الفيروس والصين، حيث كان (المريض صفر) قد ظهر فيها وتحديدا في مدينة “وهان” التي ذاع صيتها وما أشيع حولها من روايات لها علاقة بسوق الحيوانات البرية عامة وآكلي لحم الخفاش خاصة، وهو المتهم المباشر بنقل الفيروس إلى الإنسان.

الحجر المنزلي والحريات العامة:

لا شك أن تداعيات أزمة كورونا الحالية وما صاحبها من قوانين حكومية تقضي بالحد من الحركة وفرض الحجر المنزلي على المخالطين والحجر الصحي على المصابين، وتقييد حركة المواطنين في أغلب دول العالم وإن كان بشكل متفاوت، إلا أن لهذه الإجراءات تأثيراتها النفسية والاجتماعية على أفراد المجتمع أثناء الأزمة وبعدها، ولعل نزول قوات الجيش وقوى الأمن عموما إلى الشوارع في مشهد لم تعيشه الأجيال الحالية خاصة في البلدان التي تنعم بالديمقراطية منذ زمن، لكن الملاحظ في ذلك هو الحضور القوي للدولة القومية والسلطة المركزية عموما، هذا الحضور بحد ذاته يعني أكثر ما يعنيه تراجع القيم الديموقراطية وإن كان له ما يبرره.
ففي مقابلة مع الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي يعتقد فيها "أن الإجراءات الاستثنائية التي تطبقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة قد تتسبب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم، يضاف إليها انهيار الأسواق والنظام الاقتصادي العالمي، واستخدام ترامب خطاب "الحرب" وماكرون أيضاً والعديد من السياسيين الأوروبيين والدول والتحدث عن الأطباء بوصفهم جنود الجبهة الأمامية بمواجهة "العدو" غير المرئي "الفيروس". الخطاب ذاته يجري استخدامه في وسائل الإعلام كافة حول العالم، مما يطرح تساؤلاً عن أثر هذا الخطاب في فرض حالة من الاستبداد: إذ يرى تشومسكي أن تقديم "الفيروس" كعدو هو فقط لإضفاء الشرعية على "حالة الاستثناء الجديدة" بل أن ثمة ما هو أعمق في هذا الخطاب؟[i]
إن خروج متظاهرين مسلحين من المحافظين (أتباع ترامب) في شوارع  عواصم الولايات الأمريكية مطالبين بإلغاء الحظر وعودة الحياة لطبيعتها، وهي دعوة الرئيس الجمهوري بالقول "أن امريكيا لم تخلق لتغلق" بل وصل الأمر باه لدعم هؤلاء ودعوته لهم بأن (حرروا فيرجينيا، حرروا مينيسوتا، حرروا ميشيغان) وهي تحت قيادة رؤساء ولايات من الديمقراطيين، والذين بدورهم يعتقدون أن الموضوع ليس بيد الحكومة الفدرالية بل أن كل ولاية لها الحق في قرار الاغلاق من عدمه تبعاً لظروف أنتشار الفيروس فيها وذلك حسب الدستور الفدرالي، ومن هنا نلاحظ من تصريحات ترامب الذي يدعي (صلاحيات مطلقة للرئيس) وجود نزعة واضحة للدكتاتورية، ونزاع على السلطة مع حكام الولايات، وهذا يشير إلى تفاقم الأزمة التي خلفها كورونا وانتقالها من أزمة صحية إلى أزمة اجتماعية اقتصادية وكذلك سياسية في المشهد الأمريكي على الأقل.
فلسطينيا ومنذ صدور المرسوم الرئاسي بشأن اعلان حالة الطوارئ كان هناك تخوف مشروع من استغلال البعض للقانون وتنفيذ اعتداءات محددة ضد بعض القوى والشخصيات السياسة والحريات العامة عموما، فأصدرت الهيئة المستقلة لحقوق الانسان تصريحا صحفيا في الخامس من آذار الماضي يؤكد على تفهم اللجنة لقرار الرئيس بإعلان حالة الطوارئ ويؤكد  في نفس الوقت على ضرورة الالتزام بما نص عليه القانون الأساسي الفلسطيني من أحكام تتعلق بإعلان حالة الطوارئ، خاصة ما جاء في المادة 111 بأنه لا يجوز فرض قيود على الحقوق والحريات الأساسية إلا بالقدر الضروري لتحقيق الهدف المعلن في مرسوم إعلان حالة الطوارئ.
كما طالبت الهيئة المستقلة الحكومة الفلسطينية "بالإعلان وبشكل مستمر عن التدابير المتخذة في سياق حالة الطوارئ أو أية تدابير خاصة اخرى من شانها الحد من الحقوق والحريات. مع ضرورة اطلاع الهيئة المستقلة لحقوق الانسان على اية تدابير أو إجراءات خاصة تتعلق بحجز حرية اشخاص في سياق الحجر الصحي أو غير ذلك، وتزويد الهيئة بأسماء المحجوزة حريتهم/المحجور عليهم والسماح بالتواصل معهم بالطرق المناسبة."[ii]
كما أن المحامية نسرين زريقات قد طرحت مؤخرا في (جريدة القدس الصادرة بتاريخ 18 ابريل 2020) أفكارا مهمة فيما يتعلق بتقييد او تعطيل حقوق المتهمين المحرومين من حريتهم في المحاكمة خلال مدة معقولة بسبب تأجيل الجلسات واغلاق المحاكم، "من الحلول المقترحة "لضمان استمرار اتصال المحرومين من حريتهم بالعالم الخارجي بما في ذلك اسرهم واصدقاؤهم ومحاموهم ضرورة توفير اساليب بديلة من خلال استخدام اشكال ووسائل الاتصال الالكترونية بالاتصال عن بعد (عبر الفيديو) وايضا زيادة مدة الاتصال وزيادة عدد الاتصالات المسموحة عبر وسائل الاتصال المختلفة الهاتفية او عبر الوسائل الالكترونية المناسبة، وينبغي ايضا على الجهات المختصة تيسير اساليب الاتصال هذه وتشجيعها على حد سواء واتاحتها بوتيرة متكررة."[iii]

التباعد والتواصل الاجتماعي في ظل كورونا:

مع قرار تقييد الحركة الجزئي في فلسطين، وإغلاق أغلب المؤسسات العامة والخاصة، ودعوة الجمهور الفلسطيني للزوم البيت، طفى مصطلح التباعد الاجتماعي إلى السطح، لكن المجتمع الفلسطيني وخاصة الشباب منه، الذين لم يعايشوا تجارب منع التجوال التي كان يفرضها الاحتلال إبان الانتفاضة الأول والثانية وجدوا صعوبة في استيعاب الوضع الجديد، لكن هذا الجيل الذي يطلق عليه اسم الجيل زي (Z)  أي هذه الفئة التي ولدت في عصر تكنلوجيا المعلومات وفي أوج ثورة الاتصالات، والتي يتعامل معها بشكل طبيعي جدا، هذه الفئة وجدت في مواقع التواصل الاجتماعي ملاذا للهروب نحو الحياة الافتراضية، تبعها في ذلك عدد كبير من أفراد المجتمع الذين كانوا أقل استخداما لمواقع التواصل الاجتماعي، فمنهم من كانوا متابعين وليسوا نشطين، لكن الحجر المنزلي الذي حد من التواصل الطبيعي مع العائلة والأصدقاء وزملاء العمل، فرض عليهم استخدام هذه الوسائل بشكل أكثر كثافة مما اعتادوا عليه، إضافة لحاجتهم الماسة للاطلاع على المعلومة ومليء وقت الفراغ الناجم عن تعطيل الأعمال.
ربما يكون من المفيد في هذا الإطار، أن نلقي الضوء على حجم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين، وننظر سريعا لآخر تقرير أصدرته شركة آيبوك (IPOKE) المتخصصة في مجال الإعلام لعام  2019 فــي نســخته الرابعــة، الذي سلط الضوء علــى التواجــد الرقمــي الفلســطيني عبــر مواقــع التواصــل الاجتماعــي، ودراســة أثــر هــذه المواقــع علــى المجتمــع، وقبل الدخول إلى الحالة الفلسطينية علينا أن نقدم قليلا للحالة العالمية، إذ بلغ عدد سكان العالم في بداية العام 2019 نحو  7.767 مليار نسمة منهم اكثر من خمسة مليارات يستخدمون جهاز الموبايل، 57% من البشر  يستخدمون الانترنت، بينما 45 % في المئة منهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، وتشكل قارة اسيا نصف عدد المستخدمين لهذه الوسائل. [iv][v]
على الصعيد الفلسطيني، يقول التقرير أعلاه أن عدد السكان في فلسطين التاريخية وصل إلى نحو 6.8 مليون فلسطيني حسب الجهاز المركزي للإحصاء، وأن قرابة 97% منهم يملكون جهاز هاتف نقال. [vi]
كما تشير الاحصائيات أن أكثر من 4.2 مليون فلسطيني يستخدمون الانترنت عموما، أغلبهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، لغرضين اساسيين هما المتابعة الاخبارية التي تحظى بنسبة 74.4% ومن ثم التواصل مع افراد العائلة والاصدقاء في الدرجة الثانية وبنسبة 61.8%، ويتربع موقع فيسبوك على رأس مواقع التواصل بنسبة اكبر قليلا من 92% بينما يتقاسم واتساب وماسينجر مناصفة عدد المستخدمين الفلسطينيين لمواقع التواصل الفوري بنسبة 45% لكل منهما.
من الأرقام أعلاه نستطيع أن نحدد مؤشرات أهمها أن الشعب الفلسطيني يمتلك بنية تحتية رقمية تمكنه من التواصل على الأقل مع المحيط والعالم الخارجي في ظل الأزمة الراهنة ، فقد لوحظ بشكل كبير انشاء مجموعات واتساب جديدة في الأحياء والتجمعات السكنية، ناهيك عن مجموعات عائلية ومهنية كثيرة.
وعلى الرغم من الكم الهائل من الإيجابيات التي تحملها مواقع التواصل الاجتماعي في ظل الأزمة إلا أن أعداد كبيرة من الفلسطينيين لا يعتبرونها وسيلة جيدة لمقاومة انتشار الفيروس، فحسب استطلاع أجراه المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي  فإن أغلبية افراد العينة قد أجابوا على سؤال ” حسب وجهة نظرك، هل وسائل التواصل الاجتماعي كالفيس بوك تلعب دورا ايجابيا في الحد من انتشار فيروس كورونا ام دورا سلبيا ؟”، أجاب (37%) ايجابياً، (53.1%) سلبياً، وأن (9.9%) أجابوا “لا أعرف”. (The Palestinian Center for Public Opinion (PCPO ), n.d.)

الحجر المنزلي والتواصل الاجتماعي:

في الأيام التي خلت الوباء الذي اجتاح الكوكب، نظر البعض إلى مواقع التواصل الاجتماعي على أنها وسائل للتباعد الاجتماعي، فأفراد العائلة الواحدة وإن كانوا يعيشون في نفس البيت، إلا أن كل منهم كان يعيش عالمه الخاص، منغمسا في شاشة هاتفه النقال، دون النظر أو التفاعل مع من حوله، حتى أن نصائح للتندر قد ظهرت إحداها تقول: إذا أردت أن تجمع أفراد العائلة فما عليك إلا أن تقطع الإنترنت لدقائق معدودة، ستجد الكل يخرج من غرفته ليرى ماذا حدث!!
قبل الجائحة، كان الكثيرون يعيشون في نفس البيت، لكن التواصل بينهم كان ضئيلا جدا، ومع الحجر المنزلي، بدأ الأزواج في مشاركة زوجاتهم بعض الأعمال المنزلية، ومع القليل من التدريب انخرطوا في التنظيف والطبخ وغيرها، وأصبحوا على اطلاع أكثر على كل ما يحصل في البيت، عن حاجاته المنزلية، ورعاية الأطفال والصبر على صراعاتهم وضوضائهم. ونتيجة لذلك، ربما نستطيع القول أن الحجر المنزلي أصبح فرصة نادرة في عالم اليوم ليتعرف أفراد العائلة على بعضهم البعض، فيختبر صبرهم ويضع كل منهم عند مسؤولياته.

مواقع التواصل الاجتماعي والشائعات:

مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي في العقد الأخير من القرن الحالي، قفزت البشرية قفزة نوعية في تناقل المعلومات بين الأفراد والمجتمعات، وكان لها كبير الأثر في فتح المجال للمواطن العادي ليعبر عن ذاته، فأصبح مصورا وصحفيا وطبيبا ومسؤول في كل شيء، وذلك من خلال صفحته الشخصية التي يقوم بإنشائها بشكل مجاني عبر منصات التواصل الاجتماعي المتعددة، لكنها كأغلب الأشياء لها إيجابياتها ولها سلبياتها، والشائعات بالصوت والصورة  إحدى أخطر سلبياتها. فيقع الكثير من المواطنين في فخ الشائعة وترويجها دون التأكد منها، وبالتالي تحدث بلبلة في الرأي العام المحلي، وتجلى ذلك مؤخراً في أزمة فيروس كورونا وتناقل معلومات من مصادر مجهولة المصدر، مما أثار الخوف والقلق في  الرأي العام علة مستوى عالمي.
فما أن انتشر خبر وجود فيروس يسمى كورونا، حتى انتشرت الشائعات حوله، وانقسم الناس بين مصدق ومكذب، وبين من ضخم الحدث ومن استهان به، ولم يقتصر ذلك على العامة فحسب، بل تعداه إلى الخاصة، حتى وصل الأمر بالرئيس الأمريكي بالقول "ان الأمر لا يتع\ى كونه إنفلوينزا عادية (الرشح)"، فيما انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صور لأشخاص وقعوا في الشارع، وطفت نظرية المؤامرة على سطح الأحداث، ومع سرعة انتشار الفيروس انتشرت بنفس السرعة الشائعات خاصة عندما بدأت تظهر إصابات في دول خارج الصين، وقد لوحظ أن لكل مرحلة من مراحل تفشي المرض ظهرت نوعية من الشائعات المرافقة للحالة. فظهر في  أواخر شهر شباط "فبراير" الماضي الكثير من المشعوذين ممن ادعوا أنهم توصلهم لعلاج يقضي على الفيروس، وبرز بعض رجال الدين من كافة الأديان كذلك بادعاءات كاذبة، فهذا كبير الحاخامات يدعي أن الفيروس لا يصيب اليهود، ومثله من ادعى أن المسلمين محصنين بالوضوء من الفيروس، بينما ظهر قس أمريكي شهير يقيم صلوات فيقتل بها كورونا اللعين، ويخرجه من أمريكا.
أما على المستوى الفلسطيني فقد كان الرد المبكر لإعلان الحكومة الفلسطينية حول فرض عقوبات قانونية بحق مروجي الشائعات كبير الأثر في محاربتها، وخروج الناطق باسم الحكومة في إيجاز صحفي صباحي وآخر مسائي حد كثيرا من الشائعات، خاصة لما يتمتع به الدكتور إبراهيم ملحم من كاريزما وأسلوب متميز.
فكان قرار المعلومة الواحدة من مصدر واحد قد لعب دورا إيجابيا في خلق حالة من الوضوح والتعبير عن تجانس ومشاركة مجتمعية في الهم الفلسطيني الموحد للانتصار على الوباء، مما عزز ارتفاع شعبية حكومة الدكتور محمد شتية كمصدر موثوق في ظل هذه الأزمة.
وعلى الرغم من القوانين والجهد الرسمي والشعبي في مكافحة الشائعة وبالقدر الذي أسهمت  فيه مواقع مثل فيسبوك وتويتر وواتساب، في تخفيف وطأة أزمة التواصل المباشر بين البشر، بقدر ما بدا من وجهة نظر البعض أنها فشلت في اختبار المصداقية، ذلك أن أخرين قد يلقون باللوم على رواد هذه المواقع  أنفسهم، لأن آفة الأخبار هم رواتها، ولذلك نستطيع القول أن جمهور وسائل التواصل الاجتماعي يتحمل جانبا كبيرا من المسؤولية فيما يجري الحديث عنه من جوانب سلبية، أبرزها استخدام تلك الوسائل خلال الأزمة، من نشر أخبار مفبركة، إلى نشر شائعات، إلى السعي لبث الخوف والذعر في نفوس الناس، الذين وضعتهم الأزمة في حالة من القلق والذعر والهلع الجماعي، مما دفعهم للتشبث بأية معلومة ربما تكون في أساسها غير صحيحة. ومع هذا وذاك، وفي خطوة فريدة أصدرت شركات التكنولوجيا بياناً مشتركاً حول جهودها المتضافرة لمعالجة نشر المعلومات الخاطئة في أثناء أزمة فيروس كورونا. فنشر كل من "فيسبوك" و"تويتر"  بالإضافة إلى"غوغل" و"مايكروسوفت" و"يوتيوب" ومواقع ذات صلة بياناً في 17 مارس الماضي، يقول إن تلك الشركات "تعمل جميعاً بشكل وثيق لتعزيز جهود مكافحة المعلومات الخاطئة حول فيروس كورونا.
        وكان قد أعلن في وقت سابق عملاق التواصل الاجتماعي "فيسبوك" عن توفير مساحة مجانية لمنظمة الصحة العالمية، في سبيل المساعدة في مكافحة فيروس كورونا والحد من الخوف والقلق الذي ينتاب البشرية جمعاء.

مواقع التواصل الاجتماعي بين الخوف والسخرية:

قامت شركة Expert System التي تتخذ من إيطاليا مقراً لها، برصد عشرات الآلاف من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي لتتبع المشاعر تجاه COVID-19وكانت النتيجة أن الخوف هو أكثر المشاعر السائدة التي يتم التعبير عنها في المنشورات، وجاء الحزن والقلق مسيطرا بشكل كبير على العواطف الإيجابية التي كانت في انخفاض، بينما كان الحب لا يزال بارزا في المشاركات، وخلص الفريق البحثي في تحديثه اليومي إلى أن: "هناك أسباب عديدة لتزايد الخوف، وأهمها الخوف من تزايد عدد الحالات الجديدة، وبالتالي الخوف من أن المزيد من الأرواح في خطر، أما السبب الثاني فيتعلق بقدرة نظام الرعاية الصحية على الاستجابة". [vii]
على الصعيد الفلسطيني، فهناك العديد من الباحثين يعملون على دراسة الحالة الوبائية وتأثيرها على الصحة النفسية الفلسطينية، وقد نشر المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي نتيجة استطلاع أجري خلال الفترة 12-15 من شهر اذار 2020، ويشمل عينة عشوائية مكونة من 583 شخصاً يمثلون نماذج سكانية من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، تتراوح أعمارهم 18 عاماً فما فوق، جاء فيه أن (84.6%) أبدو قلقهم من انتشار فيروس كورونا، حيث جاء الرد عن سؤال ” إلى أي درجة أنت قلق حيال انتشار فيروس كورونا في الأراضي الفلسطينية في الوقت الحالي”، أجاب (41.7%) قلق جداً، (42.9%) قلق، (13.9%) لست قلقاً إلى ذلك الحد و (1.4%) غير قلق أبداً.
ومع انتشار القلق من الوضع الحالي والخوف من المستقبل، انتشرت في ذات الوقت منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي ساخرة  بشكل كبير، لكن ذلك ليس مفاجئاً، ففي الأزمات عادة من تكون السخرية هي طريقة من طرق تخفيف حالة التوتر والعصبية لمقاومة الضغوط النفسية والعصبية، وهو ما يعبّر عنه في علم الاجتماع بـ"سيسيولوجيا النكتة"، فالسخرية من الواقع المرير هي مرآة المجتمع أثناء الأزمات، وهذا ما أقدم الفيلسوف الفرنسي "هنري برجسون" على تفسيره والذي أطلق عليه ـمحاولة "لقهر القهر". فالنكتة وسيلة من وسائل التعبير الاجتماعي، وكثيرا ما كانت إحدى وسائل النقد لتقويم اعوجاجا  أو للتعبير عن رفض ممارسات ما، والسخرية عموما تستطيع أن تخلص الفرد من القلق الذي ينتابه في الحروب والأزمات بكافة أشكالها، وتعدّ وسيلة للتفريغ النفسي، وطريقة دفاعية للمقاومة بطريقة إبداعية لمحاربة اليأس بالدعابة ، فتقوم  بخلق توازن رمزي لدى الفرد والجماعة.
من المهم الإشارة هنا أن السخرية وحدها لا تستطيع أن تتغلب على الخوف وحل الأزمات؛ مالم تتضافر مع غيرها من الاستراتيجيات  الواجب اتباعها من خلال منظومة متكاملة تستهدف إدارة الأزمة بطريقة حكيمة تقود إلى بر الأمان وبأقل الخسائر؛ وفي إطار إنساني يحترم العادات والتقاليد والأعرف الدينية، دون تميز أو احتقار لفرد أو فئة اجتماعية معينة و"المضحك" في أي طرفة ساخرة أو نكتة عند علماء الاجتماع،  هو ذلك النص أو العمل الابداعي الذي لا يخرج عن المفهوم الإنساني في الإثارة ولفت الانتباه، وبما لا يتجاوز بأي شكل من الأشكال أحاسيس ومشاعر افراد المجتمع، ولا يتعرض بأي شكل من الأشكال في خصوصية الفرد والعائلة، ولا يمس إنسانيتهم أو ينتقص من كرامتهم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارحب بردودكم