كورونا: الضبط الاجتماعي في ظل السلطة الفلسطينية


طارق موقدي
في عام 1785 قام الفيلسوف والمصلح القانوني والاجتماعي البريطاني  جيرمي بنتام بتصميم بناء لسجن أطلق عليه اسم " Panopticon  Inspection house" أو بيت التفتيش،  وهو عبارة عن مبنى  نصف دائري،  مكون من عدة طوابق وغرف، يتوسط  فنائه الواسع  (مركز الدائرة) برج مراقبة مظلل بزجاج عاكس، فهو يرى  ولا يرُى، أما غرف السجناء ففي كل غرفة نافذتان واحدة صغيرة من الخلف  تسمح بدخول الإضاءة وأخرى واسعة  تواجه البرج وتسمح للحارس بمراقبة كل السجناء في نفس اللحظة، بينما، ونظرا للتصميم الفريد، فإن السجين يشعر أنه وحيدا، منفردا، فهو منقطع عن كل اتصال عن الآخرين  ولا يستطيع أن يرى أيا منهم كما أنه مراقبا باستمرار من حارس غير مرئي.   (Bentham, 1791)
ألهمت فكرة البانوبتيكون  Panopticon هذه مفكرين وفلاسفة كثر، أبرزهم كان  للفيلسوف والباحث الاجتماعي الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه الصادر في باريس سنة 1975 تحت عنوان المراقبة والعقاب(Discipline and Punish) أسقط فوكو - وبنفس المعنى الرمزي للبانوبتكون- الفكرة على عملية الضبط الاجتماعي الحديث، حتى وان لم تظل حبيسة المؤسسات الحكومية كالسجون والاصلاحيات وأسوارها، لتقوم على مراقبة كل أفراد المجتمع، لا بل إنها  في رأيه تدجن المجتمع ليكون رقيب ذاته. (FOUCAULT, 2020)
إذن ما هو الضبط الاجتماعي؟ باختصار شديد "هو مجموعة من الآليات والأسس والسياسات المجتمعية والسياسية التي تتولى مسؤولية توجيه وتسيير سلوك الأفراد في مجتمع ما سعياً للوصول إلى الالتزام والاتباع التام للقواعد الحاكمة للمجتمع أو لفئة اجتماعية أو حكومية ما".
 ومن التعريف السالف الذكر نجد أن هناك أنوعا ووسائل مختلفة لعملية التنشئة  الاجتماعية منها ما هي وسائل غير رسمية كالقيم والمبادئ  المجتمعية التي يتم بنائها من خلال معايير التنشئة الاجتماعية الأسرية، حيث يحاول المجتمع تأطير أفراده وصقل شخصياتهم في إطار معين يكون الانصياع لها إلزاميا.
وكذلك وسائل رسمية وهي ما تفرضه الدولة أو السلطة الحاكمة على أفراد المجتمع من أوامر ونواه تهدف إلى تنظيم المجتمع للحد من الفوضى وفرض الأمن.
وللضبط الاجتماعي  أهدافا سامية تعمل على  تنمية  شعور أفراد المجتمع  بالمساواة أمام القانون، فالقانون بحد ذاته يولد شعور جمعيي ورابط مشترك، وفرضه يؤطر سلوكيات الأفراد  بحيث يوضح دور كل فرد من أفراد المجتمع، ما له من حقوق وما عليه من واجبات، فتطبيق القانون يحقق التوازن والاستقرار المجتمعي، ويقوم الضبط الاجتماعي على مبدأ الثواب  للمنضبطين اجتماعيا، والعقاب لمخالفي القوانين والضوابط الاجتماعية الرسمية منها والأسرية على حد سواء.
ووفقا لنظرية تطور وسائل الضبط الاجتماعي يعتقد إدوارد روس أن هناك غرائز أساسية يحملها الفرد هي "المشاركة، القابلية  للاجتماع، والشعور بالعدالة، وردة الفعل الفرد" اجتماع هذه الغرائز الأربعة تبني  مجتمعا قائما على احترام متبادل بين أفراده،  بينما يعتقد عالم الاجتماع الشهير سمنر أن "الضوابط التلقائية " كالرموز والأنماط القيمية  التي يمارسها المجتمع هي من تخلق عمليات الضبط الاجتماعي، لكن  مؤسس "النظرية البنائية"  يرى  أن الأدوار الاجتماعية  القائمة على التوازن الوظيفي لها أبعاد مهمة جدا في عمليات الضبط الاجتماعي. (جابر، 1984)
أرى أن الضبط الذاتي أو التلقائي  هو من أهم اشكال الضبط الاجتماعي، ذلك أن سلوك الفرد فيه  يقوم على أيمانه بالقيم والمثل الاجتماعية السائدة، والقوانين والنظم الرسمية التي توائم بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة بما يضمن حرية الأفراد والمجموعات ويحفظ حقوقهم ويساوي بينهم في الثواب والعقاب.
إن طبيعة النفس البشرية -الأمارة بالسوء - تضع فرضية الضبط الذاتي على المحك، ويأتي هنا دور الرقيب المرئي وغير المرئي في نفس الوقت، فالبانوبتيكون هو النموذج المثالي للسلطة العقابية أ, التأديبية  إذا قام الفرد او الجماعة بخرق القانون، ومن أهم خصائص النظام: القدرة على تنظيم تمدد السلطة  وحضورها بطريقة فعالة، وفرض سيطرتها بأقل التكاليف، وبعدد قليل من الأفراد، باستخدام التكنلوجيا الحديثة ككاميرات المراقبة وبرامج الذكاء الصناعي في تحيل البيانات الضخمة والتنبؤ بممارسات الأفراد  وذلك بزيادة مدى الرؤية في حدها الأقصى، وتفعيل مشاركة فعالة لكل من هم على علاقة بالسلطة  وأجهزتها بكل اذرعها المدنية والعسكرية.
الضبط الاجتماعي قبل كورونا
تذبذبت العلاقة بين أفراد المجتمع الفلسطيني ومؤسساته الاجتماعية  من جهة وبين السلطة الحاكمة من جهة أخرى،  فقد اتسمت بالعداء  والشك المستمر مع قوى الاحتلال المتعاقبة، سواء أكان الاحتلال العسكري المباشر متمثلا بالإدارة المدنية او عملائها ممثلين ببعض رؤساء البلديات والمخاتير أو روابط القرى، أما على المستوى الداخلي فقد احتكم الشعب الفلسطيني للضبط الاجتماعي القائم على  نظريتي الضبط التلقائي والضبط الذاتي، فالضبط التلقائي حسب عالم الاجتماع سمنر تقوم على أن الصفة الرئيسة للواقع الاجتماعي تعرض نفسها بطريقة واضحة في تنظيم السلوك عن طريق العادات الشعبية ، إذ أنها تعمل على ضبط التفاعل الاجتماعي ، وهي ليست من خلق الإرادة الإنسانية (الرشدان، 1999).
 بل إن الوسائل الشعبية عبارة عن عادات وتقاليد المجتمع وأعرافه ، وطالما أنها محتفظة بفاعليتها فهي تحكم بالضرورة السلوك الاجتماعي ، وبالتالي تصبح ضرورية لنجاح الأجيال المتعاقبة » فالأعراف  الشعبية لها أهمية بالغة في عملية الضبط، فهي التي تحكم النظم والقوانين و أنه لا يوجد حد فاصل بين الأعراف والقوانين ، والفرق الوحيد بينهما يكمن في العقوبات ، فالقانونية منها أكثر عقلانية وتنظيماً من العقوبات العرفية في رأي (جابر، 1984)

أما  نظرية الضبط الذاتي لصابحها كولي (Cooley) فهي تنظر للمجتمع على أساس أنه كل لا يتجزأ يعتمد في تنظيمه الاجتماعي على الرمز والأنماط والمستويات الجمعية والقيم والمثل العليا، حيث أن الضبط الاجتماعي كما يعرفه كلي فهو تلك العملية المستمرة التي تكمن في الخلق الذاتي للمجتمع ، بمعنى أنه ضبط ذاتي يقوم به المجتمع، وهو الذي ينضبط في نفس الوقت . وبناءً عليه فالأفراد ليسوا منعزلين عن العقل الاجتماعي. والضبط الاجتماعي يُفرض على الكل الاجتماعي وبواسطته، وهو يظهر في المجتمعات الشاملة والجماعات الخاصة  كما يعتقد (الرشدان، 1999)
وتمظهر ذلك جليا في الأيام الأولى من الانتفاضة الفلسطينية الأولى في مطلع سبتمبر 1987، فبيانات القيادة الوطنية الموحدة كانت قد رفعت شعار (لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة. صوت شعب فلسطين) بمعنى أوضح جاءت البيانات لتؤكد أن سلطة الضبط من الآن فصاعدا هي سلطة قيادة الفعل الجماهيري، وهي سلطة الشعب الفلسطيني وليس أحدا سواه، هذا المقطع الأخير من الشعار (صوت شعب فلسطين، شعب منظكة التحرير الفلسطينية) يؤكد على الضبط الذاتي ويشير إلى أن عملية الضبط هذه فلسطينية محضة مما يعزز شرعنتها ووحدانية تمثل م ت ف للشعب الفلسطيني
تمتد هذه الفترة مع فترات إخفاق مختلفة حتى قدوم السلطة الفلسطينية بعيد توقيع أتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967 مع تقسيماتها المشهورة بمناطق ألف باء جيم، هذه التقسيمات التي حدت من وجود السلطة  وبالتالي فعاليتها في عملية الضبط المطلوبة، ناهيك عن إخراج القدس الشرقية من المعادلة الكلية.
رغم الآمال الكبيرة التي بنيت في البدايات إلا أنها لم تلبث أن اصطدمت شعبيا بالكثير من العقبات، أبرزها كان نزاع الشرعية التي تمثل في المعارضة عموما والإسلامية منها على وجه الخصوص،  ووصل ذلك النزاع حد الذروة بفوز حركة المقاومة الإسلامية حماس في انتخابات 2006 وما تلاه من انقسام، واعتقالات سياسية في محاولة كل طرف فرض الضبط الاجتماعي من نوع خاص.
اللافت للانتباه أن المجتمع الفلسطيني يعيد تنظيم نفسه في إيقاع موحد خلال الأزمات  الكبرى، كالعدوان الاسرائيلي على غزة، ونضال القيادة الفلسطينية للحصول على عضوية الأمم المتحدة، وأخيرا دائحة كورونا التي بدأت في أواخر العام الماضي 2019 أو ما عرف بـ "كوفيد-19"


الضبط الاجتماعي في ظل كورونا
إذا قمنا بإعادة قراءة بناية البانوبتيكون نجد بوضوح أن مبدأ المراقبة كان حاضرا وبقوة، وبما أن المراقب غير مرئي، فالرقابة تصبح ذاتية، لأن الفرد يغير سلوكه ببساطة إذا شعر وتأكد أنه مراقب، حتى وإن كانت الرقابة وهمية، ولنا هنا  أن ندرج مثالا على محل تجاري مترامي الأطراف، كان يعاني من السرقات فنصب مديره  مجسمات على شكل كاميرات مراقبة، وعلى الرغم أنها ليست كاميرات حقيقية إلا أن مستوى السرقة قد انخفض بشكل كبير.
من المهم التأكيد هنا أن نشر ثقافة المراقبة الذاتية يجب أن يصاحبها وبالتوازي توعية مفادها أن الرقابة هي لحفظ حقوق الأفراد والمجتمع وليس لحفظ السلطة بحد ذاتها ولذاتها، فالسلطة هي في نهاية المطاف مؤسسة اجتماعية أوجدها المجتمع، فهي منه وإليه. وأن أفراد المجتمع قاموا طواعية بتخويل المؤسسة الحاكمة هذه بتدبير شؤون حياتهم والحفاظ على حقوقهم ومصالحهم وحياتهم.
وليس أدل على ذلك اليوم من حالة الانتشار الخطير للجائحة كورونا، فاذا اسقطنا ما سلف أن تقدمنا به من إطار نظري، فإن السلطة الفلسطينية قد فرضت قانون الطوارئ  بمرسوم رئاسي، مارست من خلاله عملية ضبط اجتماعي يعتبر الأول من نوعه في المجتمع الفلسطيني، لقد تخلص المجتمع الفلسطيني في زمن قياسي من التشكيك في دور السلطة، للخضوع التام للقوانين والإجراءات التي اتخذتها، ببساطة لأن مصالح الأفراد والجماعات والسلطة ذاتها قد اجتمعت في مواجهة الخطر الداهم.
ربما تكون المرة الأولى التي يقتنع فيها المجتمع بأن الرقابة الذاتية والتي جمعت بين الرقابة الفردية والمجتمعية الرسمية وغير الرسمية هي أمر حتمي، وأن الاجراءات المفروضة على الأفراد من تقييد للحركة والتزام المنازل والحجر الذاتي هي للحفاظ على النفس البشرية في الدرجة الأولى، لو اقتنع سائق السيارة الذي كان يسير بمركبته  بسرعة  غير قانونية أن شرطي المرور الذ أوقفه لن يخالفه فقط لفرض سلطته عليه بل لأنه يقوم بواجبه تجاه السائق نفسه، إلا وهو الحفاظ على حياته  وحياة الآخرين، إذا وصل المواطن إلى هذه القناعة وإذا ما مارسها ممثل السلطة فعلا، فإننا نكون قد وصلنا للضبط الاجتماعي المثالي (الضبط الذاتي).
اليوم  نستطيع القول أن كل وسائل الضبط الاجتماعي الخمسة عشر قد اجتمعت لتقف في وجه الفايروس الفتاك كورونا، وتتمثل هذه الضوابط كما صنفها جانوتز في: الرأي العام والقانون، التربية والمثل العليا، التراث والتقاليد  والمعتقدات، القيم الاجتماعية والإيحاء الاجتماعي، دين الجماعة والشعائر والطقوس،  الفن والأخلاق الشخصية، وأخيرا  الأساطير والأوهام. (Janowitz, 1991)
وعلى الرغم من أن بعض القرارات جاءت صادمة وتتعارض مع كثير من  وسائل الضبط أعلاه فإن قلة قليلة من افراد المجتمع الفلسطيني قد رفضتها علانية، وأكثر مثال على ذلك هو قرار إغلاق دور العبادة (الكنائس والمساجد) فدين الجماعة والشعائر والطقوس  التي يمارسها الأفراد في الظروف العادية كصلاة الجمعة والجماعة  للمسلمين تتسق مع التقاليد والمعتقدات لقداس الأحد بالنسبة للمسيحيين، لقد واجهت السلطة في البداية مقاومة تمثلت في إقامة بعض الأفراد صلوات خارج المساجد وفي الساحات العامة، كما أن قرار إغلاق كنيسة المهد كان له وقع شديد على الأفراد والجماعات الدينية لما تمثل الكنيسة من رمزية دينية ووطنية، خاصة أن أولى حالات الاصابة بالفيروس قد ظهرت في بيت لحم.
إذا ما قمنا بتحيل الخطاب الاعلامي يؤكد الناطق باسم الحكومة في كل مرة يخرج فيها لوسائل الإعلام بالقول (أن الاجراءات المتخذة تصب في مصلحتكم ولضمان سلامتكم ومنع تفشي هذا الوباء بينكم) وهذا بالطبع لضمان استمرار الضبط الذاتي، وهو بذلك يكسب ثقة الجمهور ويضمن استمرارية عملية الضبط الاجتماعي.
نلاحظ التدريج في فرض وسائل الضبط الاجتماعي من قبل السلطة، وهذا بحد ذاته اسلوب متبع من أساليب الضبط الاجتماعي، وهو يتماشى مع نظرية مقاومة التغيير، كما أن استخدام السلطة للتدريج من خلال فرض اجراءات على منطقة تفشي الوباء (بيت لحم) ثم انسحاب ذلك على مناطق أخرى يصب في نفس الاتجاه، إضافة لاستخدام أسلوب التسريب الاعلامي، لتهيئة الجمهور للخطوات اللاحقة، ففرض منع التجوال مثلا مرتبط  في الذاكرة الجمعية الفلسطينية بممارسات الاحتلال في فرض سيطرته على الشعب الواقع تحت الاحتلال، أما السلطة  فتمارسه في هذه الحالة لأهداف وطنية ولمصلحة المواطن.
تمارس السلطة الضبط الاجتماعي من خلال مركزية الخبر الصحفي بدعوة محاربة الشائعات، وقد نجحت حقيقة في الحد من التفات الجمهور لمصادر الخبر غير الرسمي، بهدف تمتين الجبهة الداخلية، لأن الشائعة بحد ذاتها تهدد استمرارية الضبط الاجتماعي وسلامته، رغم بعض الهنات التي أصابت هذا الخطاب كما رصدها الدكتور أبراهيم ربايعة من حيث "المقدمات الإنشائية الطويلة ، وكذلك مقاربة شرعية حسن ادارة الأزمة والتغني بالإنجاز مقابل شرعية الانتخابات " رغم التأكيد على تعطلها بسبب الاحتلال". (ربايعة، 2020)

تقوم عملية الضبط الاجتماعي على تماسك المجتمع من الناحيتين البنائية والوظيفية، ففي أوقات الأزمات تتضاعف أهمية الضبط الاجتماعي،  فعلى سبيل المثال كان العمل التطوعي قد تراجع  بشكل ملحوظ منذ ظهور السلطة الفلسطينية 1994، مقارنة بالانتفاضة الفلسطينية الأولى، ويعود ذلك لعدة أسباب لسنا في مقام بحثها في هذا المقال، لكن أهم سبب هو التحاق نشطاء هذا الحقل في الوظيفة العمومية، والتي أصبحت تعني أن ما كان يقدم من خلال العمل التطوعي فعلى السلطة تقديمه، هذه الأفكار أدت إلى انحسار دور مؤسسات المجتمع المدني عموما وتآكل رأس المال الاجتماعي، لكن ظهور جائحة كورونا بحجمها العالمي أعاد الذاكرة الجمعية لظروف الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فظهر سريعا حركات تطوعية شبابية أعلنت عن استعدادها لتقديم أي عون ممكن للمجتمع إلى جانب السلطة وتحت جناحها، كما أن أصوات رسمية وشعبية بدأت تطالب القطاع الخاص بأخذ دوره والمساهمة المادية في دعم الجهود الحكومية لمقاومة الوباء.
على الصعيد السياسي، وبعد دقائق من إعلان الرئيس فرض حالة الطوارئ سارعت حركة حماس وعلى لسان المتحدث باسمها برفض خجول للقرار بررته حماس بأن قطاع غزة خالي من كورونا، وأن القرار لا يشمل القطاع، مما دعا الناطق باسم الحكومة للتأكيد أن القرار يشمل كل المحافظات بما فيها المحافظات الجنوبية، وامتثالا للضبط الاجتماعي أعلنت أولا جامعة أو اثنتين  في قطاع غزة عن تعليق الدوام تنفيذا للقرار تبعتها جامعات أخرى ثم أخرى، انخرطت حركة حماس في عملية الضبط هذه دون الاعلان بشكل رسمي امتثالها للقرار، فبدأت بإقامة معازل حجر صحي على الحدود مع مصر ومن ثم التواصل من خلال وزارة  الصحة  لتوفير ما يلزم في حال ظهرت أي اصابة بالفيروس، فضلا عن اتصال رئيس الحركة اسماعيل هنية بالرئيس عباس، فهل تكون كورونا فاتحة خير نستعيد به اللحمة لشطري الوطن!!

ماذا بعد كورونا
يبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، ماذا بعد كورونا، لا شك أن الوضع الراهن إذا ما طال –لا سمح الله- سيخلق عادات اجتماعية سلبية وإيجابية كثيرة، وأرى أن تمتين عملية الضبط الاجتماعي ستكون من أهم النتائج الإيجابية في المرحلة القادمة، وأن على السلطة أن تبني عليها، كالشراكة المجتمعية الحقيقة مع كافة قوى المجتمع الفلسطيني بكافة قطاعاته  الأهلي، المدني والخاص، والاتصال المباشر والمتواصل مع الجمهور، واطلاع المواطن الفلسطيني  على أي تطورات أو خطوات تتخذها الحكومة تماما كما تفعل الان في حالة كورونا، لا بل أن إطلاع الجمهور على القرارات وحده ليس كفيلا باستمرار علاقة بناء الثقة، إذ يجب أن يصل المجتمع إلى قناعة أن القرارات هي في صالحه ولأجله.

لقد برز فهوم التباعد الاجتماعي عالميا كما ظهر فلسطينيا، لكن مدنية الأنسان وحاجته للتقارب كما يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الاجتماع للبشر ضروري ولا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه ، وحكمه فيهم إما أن يستند إلى شرع منزل من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه ، أو إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليه ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم ، فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة ، والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط" (حسنين ، 1394هـ)

الثانية هنا متعلقة بالسلطة الفلسطينية وخاصة  فيما عرف بالخاصرة الرخوخة وهي طبقة العمال الذين يعملون في الداخل، والخطر القادم معهم بسبب عملهم في مناطق موبؤة وعودتهم إلى بيوتهم، وهم بين ناري الالتزام بالحجر المنزلي ولقمة العيش، بل أن انتظارهم لن يطول، فبالرغم من الأداء المتميز للحكومة وأذرعها المختلفة، "وما تراكمه اليوم من شعبية والتفاف ستخسره في يوم واحد عندما تقف عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة في ظل الأزمة الاقتصادية المقبلة المحلية والعالمية على حد سواء، وعليه لنحاول اطالة النفس عبر مرونة التطبيق خاصة ان الالتزام في مراكز العديد من المحافظات محدود وأن الأرياف تعمل بالمجمل كما المعتاد في كثير من القطاعات الاقتصادية". (ربايعة، 2020)
هناك أكثر من نموذج في عملية الضبط الاجتماعي تنتهجها دول العالم، فدور الدولة وقيمتها في النموذج السويدي على سبيل المثال يعتمد أساسا على قيمة الأفراد الذين تتشكل منهم هذه الدولة ، على عكس النموذج الصيني الذي يختزل مصالح  الأفراد وتطورهم االقيمي وتقدمهم الحضاري في قدرات عملية او إدارية محددة بدقة مما يقزّم أفراد المجتمع ويحولهم إلى أدوات مطيعة بيد السلطة حتى وإن كانت الغاية من ذلك هي للمنفعة العامة.
نرجح التعامل مع الأزمة وما قد يليها من هزات ارتدادية بالذهاب نحو النموذج السويدي، وبشكل أكثر وضوحا، يجب أن نبتعد عن سياسة القبضة ونعتمد سياسة الأصابع المتأهبة (سياسة الملقط) بحيث يكون هناك مساحات مفتوحة وأخرى مغلقة تبعا للحالة من حيث انتشار الوباء أو انحساره من جهة، ومن حيث طبيعة وحيوية النشاط الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى، كما لا بد من أن نأخذ بالاعتبار  البعدين الديموغرافي والجغرافي في عملية الضبط الاجتماعي، ذلك أن المناطق المحاذية لجدار الفصل العنصري والقريبة من المعابر الاحتلالية أكثر خطرا من العمق الفلسطيني، كما أن عملية الضبط في المدن تختلف عنها في القرى والمخيمات، غني عن القول أن إطالة مدة الحجر المنزلي سينتج عنه بالإضافة إلى المشكلات الاقتصادية،  أزمات اجتماعية ونفسية كثيرة.
لقد أظهر المجتمع الفلسطيني حتى الآن انضباطا استثنائيا  لم يفعله إلا مع سلطته الوطنية، فقد اعتاد أن يتمرد خلال المئة عام الماضية، ذلك أن السلطات الحاكمة كانت استعمارية غاشمة، فقد وضع ثقته التي اهتزت اكثر من مرة في سلطته، وعلى السلطة الفلسطينية أن تستخلص الدروس من هذه الأزمة، وتبني على هذه الثقة التي منحها لها الشعب، وإن كانت ليست بديلا عن الانتخابات المنتظرة إلا أنها مؤشرا يقول باختصار، "أذا كنتم جادين في خدمتنا فسنوليكم ثقتنا واحترامنا، فضلا عن انضباطنا، لكن هذا قد يتغير إذا ما طالت مدة الحجر المنزلي، واستمر تعطيل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة.

المراجع:

 

Bentham, J. (1791). Panopticon, or, The inspection-house.
FOUCAULT, M. I. (2020). DISCIPLINE AND PUNISH: The birth of the prison. S.l.: PENGUIN BOOKS.
Janowitz, M. (1991). On Social Organization Social Control. Chicago: The University of Chicago.
عبد الله سامح ربايعة. (2020). منشور. موقع فيسبوك.
عبد الله، الرشدان. (1999). علم اجتماع التربية . عمان : دار الشروق .
محمد سامية جابر. (1984). القانون والضوابط الاجتماعية. الاسكندرية: دار المعرفة الجامعية.
مصطفى محمد حسنين . (1394هـ). الضبط الاجتماعي في الإسلام. ، العدد الخامس ، الرياض : ، كلية الشريعة ، (201-208).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ارحب بردودكم